الخطوة الثانية .. الالتزام الأمثل

استوقفتني كلمات لأحد أفاضل الكاتبين مخاطبا أحد قرائه: لا أتفق مع من يحصر الأدب الملتزم في نطاق ضيق. كل فكرة محلقة وجميلة، ولا تتصادم مع معطياتنا الحضارية، نحن أولى بها، أشيد بهذه الآفاق الرحبة التي تتحرك من خلاله...! وفي البدء أشير إلى أن الكاتب يريد بعبارة معطياتنا الحضارية الإسلام وما ينبثق عنه من مبادئ وقيم وموجهات، وهذا عمل صالح وطيب، وإن كنت أحب أن نكون صرحاء دائما، وأكثر مواجهة في تسمية الأشياء بأسمائها، ولا نخجل أبدا من ذكر: الإسلام.. الدين.. الأخلاق، بديل هذه المصطلحات والتسميات الخجولة المتوارية في عالم كثر فيه التلاعب بالألفاظ المطاطية وتحويرها تسهيلا للدخول من هنا، والخروج من هناك.. ما يريده كاتبنا الفاضل- وهذا هو أصل الموضوع الذي استوقفني- إن الالتزام الأدبي يعني كل فكرة محلقة وجميلة لا تتصادم مع الإسلام ومبادئه وقيمه... ثم ينتهي البيان، وينطلق الأدباء في كل واد يهيمون!...أصحيح هذا الكلام؟! نبادر ونقول في سرعة: كلا.. كلا! .. إن هذا هو نصف الحقيقة، أما نصفها الآخر؛ فشيء آخر كثيرا ما نسهو عنه، ونهمله إهمالا..ذلك أن الالتزام الإسلامي الذي نريده- وهو كذلك حقا وصدقا- له درجتان اثنتان، لا تقوم أولاهما ولا تكتمل وتعطي ثمرتها المرجوة إلا بوجود ثانيتهما، وتنعدم الثانية هذه وتذهب بددا، ما لم تقم وترتكز على الأولى ارتكازا. الدرجة الأولى من الالتزام الإسلامي، هي: أن المبدع والأديب الملتزم إسلاميا، حين يبدع أدبا وفنا، يحرض على ألا يتصادم فنه هذا مع قيمه وقيم مجتمعه المسلم التي آمن بها واعتنقها،وهي قيم دينية وأخلاقية.. فهو من جانب لا يحقرها ولا يهون من شأنها، ولا يسخر بها.. يعنى أنه يحترمها ويجلها، ومن جانب آخر هو يتباعد عن أن يأتي عملا فنيا تخريبيا يغري بمقارفة الآثام والشرور، ويحرض على مقاربة الرذائل والفواحش.. وإلا، إن هو فعل ذلك عد من المفسدين في الأرض! إن المبدع المسلم حين يبدع، يتباعد عن أن يكون مخربا مفسدا) بأي من الصورتين السالفتين، فيمسك شره، وينتاءى عن الإفساد والإضلال، يكون فنانا ملتزما دون ريب، وعمله هذا التزام محمود مشكور على أية حال!..ولكن أي التزام؟ وما درجة هذا الالتزام وما مستواه؟ إنه التزام الحد الأدنى.. الالتزام السلبي غير الإيجابي؛ لأنه التزام الكف والامتناع، وهو على أحسن الفروض نصف التزام إذا صح هذا التعبير. أما الدرجة الأخرى من الالتزام الإسلامي، فهي الالتزام الأرفع والأسمى والأمثل.. التزام الإيجاب الذي يحتاج إلى بذل الجهد والطاقة لإيجاد شيء وإتقانه وإحسانه...حيث لا يكتفي هذا الملتزم بمجانبة الفساد والإفساد والابتعاد عنهما، ولكن من يسعى للبناء والإنشاء والتعمير وإتقان هذا البناء وتحسينه!.. نريد بذلك: أن الأديب المبدع الملتزم إسلاميا، لا يقف بأعماله الفنية عند حد الامتناع عن عمليات التخريب العقدي والأخلاقي.. ولكن عليه أن يخطو خطوة أخرى إلى الأمام، فيوظف أدبه وفنه توظيفا فنيا لبناء مجتمعه بقيمه الدينية والخلقية، ويرسخ فيه قيم الإيمان والنظافة والطهر والجمال، ويقاوم فيه الشر والفساد والشين والقبح وكل ما يتصادم مع معطيات مجتمع الخير والفضيلة والجمال.. مجتمع الإسلام وما يشوه وجهه السمح الجميل!.. وبهذا نرى أن الالتزام الإسلامي، التزامان: التزام سلبي، وآخر إيجابي.. أو قل: هو التزام ذو وجهين: وجه في الجانب الأدنى، وآخر في الجانب الأعلى.. والعملة.. لا تكون صالحة للتداول ما لم يكن لها وجهان صحيحان..وإلا؛ فهي عملة زائفة لا تجد قبولا ولا رواجا، ومآلها الطرح والنبذ بعيدا، هذا إذا لم يحل المتعامل بها إلى ساحات القضاء!.. ونحن حين نقول إن الالتزام الإسلامي إنما هو التزامان- أو قل: التزام له وجهان- لا نخترع ذلك اختراعا من عند أنفسنا، ثم نطرحه للناس ليروج بينهم باسم الإسلام..كلا!..إن ما نقوله هو من أوليات مفهومات الإسلام وبالضرورة؛ إذ أول ما يخطوه المرء- بعد إسلامه أن يمسك عليه جوارحه، وينتهي عن الشر والإثم والفساد.. وخطوة الإمساك هذه، هي خطوة سلبية، وإن كان فيها جانب إيجابي بمفهوم آخر ليس هذا محل تبيانه!.. والسؤال هنا، هو: هل يتم إيمان المرء وإسلامه بهذه الخطوة وحدها،أم لابد أن تتلوها خطوات كلها عملية إيجابية فاعلة بناءة بها يقوم مجتمع الفضيلة والإيمان والطهر والجمال؟!... ماذا لو قال هذا المسلم الممتنع عن مقارفة الشرور والآثام: إنني اكتفي بهذا القدر؛ فيه تبرأ ذمتي، وما علي من شيء بعدها للناس، ولا لرب الناس؟ أتراه بهذا تبرأ ذمته حقا وصدقا؟!. أما أنا فلا أرى لتبرئته من سبيل؛ ذلك إنه لا بد بعد الإيمان والكف عن الشر من عمل صالح، حتى يكون في زمرة الذين آمنوا وعملوا الصالحات. إذا كان هذا هو الحال بالنسبة للفرد العادي.. فكيف بأصحاب القدرات والمواهب الخاصة، والمميزات المتفردة التي حباهم بها رب العباد من العلماء والحكماء والمفكرين والمبدعين المنشئين؟..إن المسألة بالنسبة إليهم أدخل، والتكليف أوجب؛ فكلما زيدت المزايا والمخصصات؛ زيدت التكليفات والواجبات!.. ونحن حين نطلب من الأديب المسلم أن يخطو بالتزامه الخطوة الثانية ولا يقف عند الأولى؛ إنما نكره له أن يكون نصف ملتزم، يعني نصف شيء.. رجل في الركاب ورجل في التراب!!.. وهذا لا يكون عند الله وجيها!.. إننا نريد أن نرفع من شأنه، ونعلي من قدر فنه وإبداعه، حتى يكون وجيها، وشيئا مذكورا عن الله والناس...لأنه بهذا يصير صاحب رسالة وغاية في الحياة وعضوا فاعلا يؤدي وظيفة فيها، وليس كما مهملا وعبئا ثقيلا محسوبا عليها يرهقها ذلك، في الوقت الذي تنتظر منه هذه الحياة أن يساهم في إنشائها وبنائها وتعميرها، وتطويرها وتغييرها إلى ما هو أحسن وأجمل!.. وتأبى له أن يقف بها عند حدودها الراهنة. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(2)بتاريخ(1414هـ)