الزيارة

أصبح وجه المدينة كئيبا كالحا، كل شيء تغير، السماء تلبدها الغيوم، الصدور مقفلة على هم كبير، الوجوه عابسة، الصمت الأخرس يلف الطرقات حتى صياح العربات المتجولة اختفى، فلم تعد قارعة الطريق تغص ببائعي الكعك والبيض والعرقسوس. المارة يسيرون في صمت كئيب قاتل، لا ترتفع أطرافهم إلا ليحملقوا في سيارة مسرعة تمر من جانبهم، محملة بأرتال من جنود، يشع من عيونهم بريق الخوف، يقبضون على أسلحتهم بأيد صلبة، كأنما يخافون أن تهرب. أفاقت، رمقت ساعة معصمها، لم يكن لموعد بدء منع التجول غير ساعة، همهمت: باستطاعتي أن أعودها، اطمئن على جرحها في مظاهرة أمس الأول ثم أعود. سارت في الشوارع العريضة، الصمت يطبق في خوف شديد، السيارات تمر مسرعة مجنونة، الجدران بحجارتها الكابية تزيد النفس قتامة، وتضاعف من عذاب الوحدة ..الخربشات على الجدران تمسح ما يترتب في القلب من ملل وأحزان، فوهة بندقية مرتسمة بشكل بدائي بسيط، مفردات كبيرة تنتشر هنا وهناك تؤكد معنى الوحدة.. أصابع كثيرة ترتفع فوق رؤوس صغيرة تحمل شارات النصر. تيسر في خطى أقرب إلى الوثب، ترمق المارة، تقطع الشارع القريب من البيت، تعبر شارعا آخر، تدخل حارة، تدور في منعطف يوصل إلى زقاق. مبهورة الأنفاس، وقفت بالباب، انتظرت تستعيد أنفاسها الهاربة، رفعت يدها، ضغطت الجرس المرتفع بعد أن تحاملت على أطراف أصابعها، غزتها موجة فرح.. مرت لحظة، فتح الباب بيد معروقة، لعجوز ذات فم أدرد. خطت نحو غرفة صديقتها، ألفتها ممدة على الفراش، معصوبة الرأس، لحظت تحسن وضعها، بعد أن لاحظت رحيل موجة الاصفرار التي لونت وجهها بالأمس. هربت اللحظات بها بعيدا إلى أجواء الإضراب والحجارة والإطارات المحروقة. تنهدت بعد أن نظرت إلى وجه صديقتها الجريحة، كأنما تحسدها على هذه النومة، التي تؤكد فيها صديقتها حب الوطن... حانت منها التفاتة مفاجئة لساعتها التي نسيتها تحتضن رسغها البض الأبيض، أخرجت آهة ندم، مذكرة صديقتها بضرورة العودة، لم يبق لسوء الحظ على موعد منع التجول سوى دقائق عشر. نهضت كرمح، ودعت صديقتها التي لم تستطع النهوض، رغم محاولتها اليائسة، حاولت أن تداري دمعة فرت من عينها، أثارت انتباه صديقتها، التي تساءلت بفرح فيما إذا كانت تلك دمعة حزن أم دمعة فرح! عندما طبعت على خد صديقتها قبلة دافئة، قفزت مغادرة كالغزال، ما أن وطئت قدمها درجة السلم حتى ألمت بها نسمة خوف، وازداد الخوف عندما اكتشفت نفسها وحيدة في الشارع العريض لأول مرة. سارت بخطى واسعة مرتبكة، تتلفت بين الفينة والأخرى إلى الوراء..كأنها تستوثق من عدم وجود خطر، وهي تنظر إلى عقارب ساعتها التي تدور بسرعة كبيرة، فيتلون وجهها نتيجة ذلك بانفعالات شتى، سمعت دقات قلبها المتسارعة، أحست ببداية دوار يغزو رأسها، تخيلت الطريق يمتد أمامها ويطول.. صكت أذنيها قهقهة عالية، رمقت الرصيف المقابل من الشارع بوجل، جف ريقها، رعدة مفاجئة سرت في شرايينها، تساءلت في نفسها من تراه يكون؟. تجمدت الدماء في عروقها، رأته يذرع الشارع في سكون.. لم تدر ما تقول..هل تهرب؟ لكن الرصاصة حتما ستسبقها، لا..ستتوقف، ستشرح الموقف. - قف..لا تتحرك..كم الساعة الآن- الآن!! هربت كل المفردات من فمها، ارتبكت، لم تدري ما تقول: التفت الجندي إلى رفيقه الذي يقف بعيدا، تراطنا بصوت عال، ابتعد الواقف، تقدم الآخر، بتودد قال: اقتربي، لا تخافي:..هيا:- - ولكن ساعتي عاطلة منذ الصباح، لم... اقترب منها أكثر، أمسكها من يدها، حاول تقبيلها، حدق في عينيها، انزلقت يمناها عبرة فتحة صدرها، ابتسمت له بمكر، لمع في يدها شيء تحت ضوء مصباح الشارع الخافت. مرت اللحظات سريعة متلاحقة تكور المجند، بعد أن أخرج آهة مخنوقة، رمقته بنظرة احتقار، بصقت في وجهه بغيظ..ركلته بمقدمة حذائها.تلفتت في جميع الجهات ثم غابت منسابة بخفة في أحشاء الليل، وقد تناهى إلى سمعها زعيق سيارة النجدة القادم من بعيد. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(6)بتاريخ(1415هـ)