أغلى من الحياة

عندما بدأت السماء بترحيل الغيوم عن صفحات وجهها لتبدأ ثانية بالابتسام لربيع أرضها التي عانقت زهورها الوردية وحملت بسنابل القمح الذهبية.. كانت هناك امرأة تضرب بمعولها بطن الأرض وتبذر بذور القمح والرياحين...وقفت هنيهة، ورفعت رأسها إلى السماء داعية الله بأن يحفظ لها هذه الأرض التي تأكل من رزقها وتعينها على قوت يومها، وإذا بدمعة حارقة تنزلق على وجنتها التي لوحتها الشمس. قالت الدمعة: يا أم أحمد مهلا وصبرا، صحيح أنك فقدت زوجك وأنت لا زلت في ريعان الصبا، وكنت مثل هذه الأرض التي تحمل بسنابلها، حيث كان أحمد ينمو بين أحشائك، وصحيح أن زوجك كان مثال الرجل القوي المؤمن الذي استشهد دفاعا عن أرضه وعرضه، وأنت يا أم أحمد صامدة كشجرة السرو التي تقبع أمام مدخل هذه الأرض متحدية جنون العواصف وخفق الرياح. أم أحمد: آه يا دمعتي إنك لا تعرفين ما يعتصر قلبي من الألم والحزن على فراق أبي أحمد، الذي رحل قبل أن يعرف وجه ابنه، إنه كان الحبيب والصديق والأخ والأب، تخيلي يا دمعتي أن أفقد أربعة معا في شخص زوجي أبي أحمد!... الدمعة: على رسلك يا أم أحمد هوني عليك، فأنت القوية المؤمنة الصابرة، فغدا عندما ترين أحمد بدأ يكبر كحبات الزيتون التي تزين أغصانها، وكبراعم اللوز الثلجية التي تكسو عيدانها، وعندما ترين شقائق النعمان رفعت رأسها لتعانق خيوط شمس الربيع الذهبية، عندها ستعلمين أن جهدك وصبرك قد أزهر فرحا وأملا.. أم أحمد:آه يا دمعتي أحس بأن بيني وبينك صداقة حميمة، فأنت الوحيدة التي تكتشفين ضعفي دائما وتحسين بحرقة قلبي... أم أحمد تمسك بطرف طرحتها بأناملها التي كساها التراب وتمسح دمعتها وتحاول أن ترسم ابتسامة رضا على شفتيها.. وإذا بأحمد يأتي مهرولا من طريق القرية الترابي ويحاول الوصول إلى أرض أمه وأبيه.. أم أحمد تراقب أبنها بسرور، فقلبها يرى فيه صورة أبيه الشهيد الذي لا يفارق خيال أمه، وهي تحاول دائما تأمل طول ابنها الذي أخذ الآن بالاقتراب من سن الشباب المبكر وأخذ يشبه أباه. أم أحمد تهمس: آه ما أجمل طلعتك يا بني، ففيك كل حركاته وسلوكه، وأدعو الله أن تكون مثل أبيك مؤمنا صابرا مجاهدا، فأنا أكره جبناء الرجال والمتخاذلين والذين لا يؤدون حقوق الله. وما أن أقترب أحمد من سياج مزرعته حتى تراءت سيارة جيش إسرائيلية تسرع بجنون وكأنها تريد الطيران فوق السحاب والنجوم.. وقفت فجأة ونزل جنود الاحتلال من السيارة عند رؤيتهم أحمد، وانهال جنودها الخمسة ضربا عليه دون سابق إنذار... صرع أحمد من الألم وقال مندهشا: ماذا فعلت ولماذا تضربونني؟؟ الجنود يوسعونه ضربا بأحذيتهم العسكرية الضخمة وأكواع بنادقهم على وجهه وصدره وساقيه..أحمد يصرخ ويحاول أن يقاوم... أم أحمد تركض وتركض وكأن المسافة بينهما وبين سياج الأرض آلاف الأميال فيه لا تكاد تصدق أنها سوف تصل إليه، فإحساسها بأن المسافة تبعد وتبعد كلما حاولت الاقتراب، وأخيرا وصلت وانهالت على الجنود بفأسها فأردت أحدهم قتيلا، وهجم أحمد على الآخر وخطف بندقيته.. بدأ بإطلاق النار على الجنود وهي تكبر الله أكبر.. الله أكبر، ودارت معركة عنيفة بين الجنود من جهة وبين الأم وابنها من جهة أخرى إلى أن استطاع أحمد وأمه قتل ثلاثة جنود، ولكن أحمد وأمه أصيبا بإصابات بالغة جعلتهما يتضرجان بدمائهما إلى أن لفظا أنفاسهما الأخيرة. بصق الجنديان على جثتي أحمد وأمه وركلاهما بأقدامهم وتركاهما ينزفان تحت شجرة السرو وفرا بسيارتهما. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(2)بتاريخ(1414هـ)