جعفر الطيار

(1) ويمضي موكب النور، يغذ السير في الشعاب والفيافي المقفرة، تتقد الصدور حماسة، وتمتلئ النفوس إيمانا.. يحثون الخطى..الشوق والرغبة العارمة في اللقاء على الوجوه المتعطشة لإحراز إحدى الحسنيين. إذ كيف يقتل أولئك الأوغاد مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والرسول يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة- (لا إكراه في الدين)- يعرض عليهم الإسلام- (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)- يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، كما أن قتل السفراء جريمة لا يقرها عرف أو دين، فكيف أقدم عليها أولئك الجبناء؟ أسئلة وخواطر مرت بالأذهان، وما زال صدى كلمات الرسول يصدح في الآفاق، تشهد به الجبال والأشجار والروابي والتلال والآبار: ( لا تقتلوا الأطفال، لا تقتلوا الشيوخ، لا تقتلوا الأجير ولا تخربوا) كلمات يعرفها كل من مس قلبه نور، ودائما يذكرهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم. (2) ارتعشت يد جدي وهو يدق عصاه في الأرض..تحرك ناحية النافذة، جال ببصره ناحية الجدار الصامد وبقايا المئذنة..التفت نحونا وهو يمسح دموعا التصقت بشفتيه، وواصل حديثه، وواصل الجيش مسيرته، قطع المفاوز البعيدة والفيافي الشاسعة، وفي قرية مؤتة بالأردن كان اللقاء، ثلاثة آلاف مسلم ينتظرون إشارة القائد. حكت أختي عينها بباطن كفها وقالت: مضى شهر ولم يعد أبي يا جدي، أردف جدي: كان عدد الروم مائتي ألف..تنهدت أمي وهي تعيد الرقم، هبت أختي واقفة وقالت أخشى أن يكون أبي قد أصيب، مسحت أمي على رأسها، وأجلستها بجوارها. اقتربت من جدي وتساءلت: وماذا فعل المسلمون؟ اقترب حاجباه حتى التصقا وقال: استشهد زيد بن حارثة قائد المسلمين، بعد أن أبلى بلاء حسنا فحمل الراية جعفر ابن أبي طالب، وقاتل قتال الشجعان، حتى إن فرسه لما انحرفت للخلف قليلا- من شدة كثافة الأعداء- نزل عنها وعقرها، وظل يقاتل حتى قطعت يمينه، فرفع الراية بيساره، فلما قطعت حملها بين عضديه، وقبل أن يلقى الله جاءوه بالماء ليشرب، فامتنع وقال:إني صائم وأحب أن أفطر عند ربي في الجنة، فرفع الراية عبد الله بن رواحة، وقاتل حتى استشهد، ثم أخذ الرأية سيف الله المسلول وعاد بجيشه سالما. وقال الرسول هو ينعى أصحابه: إن الله أبدل جعفرا بيديه جناحين يطير بهما في الجنة. (3) شهقت أمي وهي تلتصق بنا عندما اندفع الباب بشدة، هوت عصا جدي في الهواء عدة مرات، ثم سقطت وسقط هو بعدها، تراجعنا إلى الخلف ككومة من اللحم.. التصقنا بالحائط وارتفع صراخنا. أشار الجندي الأول إلى أختي وهو يشيد بجمالها، داست قدمه رأس جدي وهو يتجه ناحيتها، شق الصراخ المتواصل صفحة السماء، نادت أختي بأعلى صوتها أباها الغائب، جذبها من شعرها، تشبثت بي، وبأمي، وبالكرسي، وبالباب، وبالحوائط بكل ذرة فيها، صرخت وهو يمزق ملابسها، ونادت للمرة الأخيرة أباها الغائب. الكون من حولنا صامت، ساكن وفي أحد الأركان افترشت أمي الأرض وعلا نشيجها، تقدم الجندي الثاني وأمرها بالوقوف، ارتفع صدرها وهبط وهي تتساند على الحائط بحركة سريعة شق ثيابها نصفين، ارتفع نشيجها الحاد عندما رأت نفسها عريانة أمامي. وضعت رأس بين ركبتي، واشتد بكائي عندما تذكرت أبي الغائب، مرت صور الأطفال الملثمين أمامي وهم يواجهون بالحجارة العربات والجنود المسلحين، رأيتهم كثيرا عبر نشرات الأخبار في التلفاز. تسللت من الحجرة..كانت أمي تقاوم، وكان صراخ أختي يدوي من الحجرة المجاورة، تلطخت قدمي، بدم جدي الذي تسرب في أنحاء البيت، وفي المطبخ سحبت الكرسي الصغير.. وبهدوء صعدت فوقه، ثم سحبت السكين الكبيرة، أخفيته بين طيات معطفي وبهدوء عدت. ما زالت أمي تقاوم، وبيديها الواهنتين تضرب في صدره، وأنين خافت ينبعث من الحجرة المجاورة، كانت مؤخرته أمامي، وظهره الضخم يتحرك يمينا ويسارا، أخرجت السكين، ارتعدت مفاصلي، فاهتزت السكين في يدي، تذكرت فرس القائد التي عقرها لما انحرفت للخلف قليلا، تقدمت ببطء، كانت عين أمي تستحثني، وأنين أختي يمزقني، رفعت السكين لأعلى، ثم أهويت بها في مقدمة ظهره، مدت أمي يدها وساعدتني، حتى اخترقت السكين صدره، ثم هرعت إلى ملابسها. (4) انفتح باب الحجرة المجاورة، خرج يتمايل وهو يهذي بعبارات النصر، يشيعه أنين أختي المتقطع، جمدت عيناه. وهو ينظر إلى السكين في يدي والدم يتقاطر منها، وبصيحة عالية أمر أمي بالوقوف بجوار أختي بجانب الحائط، وصوب سلاحه باتجاهما واستمر في الضغط عليه حتى بعد أن سقطتا على الأرض. ثم اتجه نحوي وقال: أما أنت فستموت بطريقة أخرى، أتدرون ما حدث؟ قال الذين أنقذوني أنهم وجدوني في وسط بركة من الدماء. وقد قطعت ذراعاي ثم وضعتا على صدر جدي! (5) ارتجفت، أصابني الذعر، أغضمت عيني، وانفجرت في البكاء الصور المرعبة التي وقعت عيناي عليها داخل العنبر الكبير، زلزلت كياني، حاولت أن أمسح دموعي، اشتد صراخي، لم أكن أعرف أنني أصبحت بلا ذراعين. تذكرته لما قال: إنه سيقتلني بطريقة جديدة. (6) التصق جسدي بالسرير، لم أعد قادرا على البكاء، رفعت بصري إلى السماء وتمتمت: يا رب أنت أعلم بالظالمين، فهم كثير كثير يا رب، لا يستطيع عقلي الصغير أن يحصيهم، غفوت قليلا، فرأيته مقبلا نحوي حتى اقترب مني، وقبلني على جبهتي، ثم مسح على صدري،فأحسست بقوة تسري في جسدي، بدا وجهه كالبدر، ولم تفارق الابتسامة محياه، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، بش في وجهي وقال: ما يبكيك يا جعفر؟ قلت له: إن اسمي ليس جعفرا. قال: أنت جعفر الصغير، سألته عن جدي وأبي وأمي وأختي؟ قال: إنهم في الجنة ينعمون يا جعفر. أجلسني على سرير وقبلني بين عيني، وهو يقول: ستكون معهم إن شاء الله، ستكون معهم إن شاء الله يا جعفر.. ومضى ناديته بأعلى صوتي أن يأخذني إليهم ولكنه مضى. من ساعتها لم أعد أبكي، أصبح كل نزلاء مستشفى سراييفو-أقصد الذي يقدرون على الحركة والكلام ينادوني باسم جعفر الطيار. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(21)بتاريخ(1419هـ)