أحزان- قصة قصيرة

كان يوشك أن يغلبه النعاس، حين تعالت من خارج مسكنه زغرودة صاخبة، تضج بفرحة غامرة..طار النوم من عينيه.. تململ في مقعده.. النتيجة .. بالتأكيد هي. برق في خياله وجهها، فاهتاجت أحزانه، واتقد خاطره. اليوم كان يمكن أن يكون يوم سطوع نجمها.. أما أمها فكان يمكن أن تطلق هي الأخرى زغاريدها، وكان سيصرخ وهو يغالب عواطفه.. يا امرأة اعقلي! فتهتف والفرحة تهز أعطافها.. دعنا نفرح يا حاج.. هل لنا غيرها؟... الدنيا-اليوم-لا تسع فرحتي. مزقت سمعه زغرودة ثانية. ارتج حتى الأعماق..تندت عيناه بدموع حبيسة. ستتوالى الزغاريد... تدوي في سمعه... تنكأ جرحه الغائر. أشعل لفافة بيد ترتعش، وفي غم وكآبة جعل ينفث دخانها. بعد لحظات مد بصره إلى غرفة النوم، من خلال بابها المفتوح، أبصر زوجته على الفراش، تدفن وجهها في حجرها. لا بد أنها تبكي، ستموت حزنا. علا نحيب قلبه. أبصر زوجته تنهض من فراشها، ثم تجر قدميها إليه. أحتضنها بعينيه، والأسى يغمره. راعه الشحوب الذي كسا وجهها. الأحزان تعتصرها، في أيام أصبحت وكأنها حطام آدمي. تهالكت على مقعد بجانبه. وبعد أن هدأت أنفاسها همست في صوت واهن: - سمعت يا حاج؟ ارتجفت شفتاه... احتقن وجهه.. بلغ عذابه منتهاه، سحق لفافته في المنفضة. ماذا يقول لها؟! همهمت ثانية: - نتيجة الثانوية يا حاج. ثم راحت في نشيج فاجع مكتوم. أغمض عينيه. تنهد ملتاعا متحسرا. آه.... هو أيضا يريد أن يبكي...أن يصرخ من أعماقه عاليا. ارتعشت شفتاه في استعطاف: -ستذهب لترى النتيجة؟....أليس كذلك؟ شملها بنظرة هالعة. النتيجة؟!.. هل يقدر؟...مستحيل.. وأيضا ما الفائدة؟...الأحلام الزاهية تمزقت.. صرح الآمال الشامخ تهدم...وأصبحت أيامه- ليلا ونهارا- ظلمة حالكة. ترقرقت الدموع في مقلتيه. أبصرت زوجته دموعه الحبيسة، فاجتاحها نوبة بكاء حارقة. النتيجة؟...يا للحسرة.. حتما ستكون باهرة. الكل كان يتحدثون بإعجاب عن نبوغها.. بل كانت أمل مدرستها في نتيجة تفتخر بها.. من الصغر ونتائج امتحاناتها رائعة... الأولى دائما.. تلاحقت الذكريات. صورتها ما زالت ماثلة في خياله، وهي تحدثه عن آمالها. أعدك يا أبي.. لن تفلت كلية الطب من يدي! وبعد أعوام سرعان ما تنتهي.. سترتفع على واجهة بيتنا لافتة كبيرة، مكتوب عليها بخط جميل... الدكتورة هدى علي.. ومن يدري.. ربما يحالفني الحظ فأصبح أستاذة بكلية الطب.. لا شيء مستحيل.. وأنت تعرف ابنتك.. ذكاء وإرادة صارمة.. وإن شاء الله سأتخصص في طب الأطفال... ما رأيك يا أبي؟ أليس أفضل تخصص للمرأة كطبيبة؟.. سأثبت أن تفوق الرجال على النساء في مهنة الطب خرافة أطلقها رجل. فجأة .. اتقدت في خياله ذكرى اليوم المشؤوم. هدى في عيادة الطبيب.. تتلوى من شدة الألم. - لا بد من عملية عاجلة. صاح هو في دهشة بالغة... - عملية؟!.. هكذا فجأة؟! ويرد الطبيب في هدوء وثقة: - لا تخف... إنها الزائدة. وكانت المأساة...وقعت الفاجعة.... يا لهول ما جرى.. الأمل الوحيد في دنياه الكالحة.... الشباب والحيوية جسد ملفوف... جثة هامدة. أمها تصرخ مفجوعة مولولة.... وهو في ذهول...مذعور لا ينطق، فقد أخرسته المفاجأة. وفي المقابر- قبل دفنها- أمها تصرخ في جنون..دعوني.. دعوني أدفن معها... من لي بعدها.. أما هو فقد ألقى نفسه في حضن شقيقه باكيا مهدما. - لا بد أن تذهب يا حاج. قالتها في إصرار. آفاق هو من جحيم ذرياته. غاصت عيناه في وجهها الذابل. وهو أيضا تؤججه الرغبة العارمة نفسها...أن يعرف ما انتهى إليه نبوغها. صاحت بين دموعها... - ماذا قلت يا حاج؟! تأوه قائلا: -سأذهب يا حاجة..طبعا سأذهب. وقام من مكانه في إعياء...ثم بعيدا عن عينيها أطلق العنان لدموعه الحبيسة والبكاء المكتوم في داخله، وهو يدعو الله أن يلهمه الصبر. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(8)بتاريخ(1416هـ)