الوصية- قصة مترجمة

ترجمة: د. سمير عبد الحميد إبراهيم ستار طاهر- رحمة الله عليه- من الأدباء الذين أجادوا كتابة القصة القصيرة، وهذه القصة التي ننقلها إلى العربية لم تنشر إلا في (نيسان) أبريل عام 1994م، بعد وفاته، وهو يعالج عادة القضايا الفرعية التي قد يظن البعض أنه لا قيمة لها في حياة الناس، لأنها كما نقول في العربية لا تقدم.. ولا تؤخر... إلا أنها في نظر الأديب تكون لها قيمة، وبطريقة ضمنية يعرض الأديب لقضايا أخرى تمس الحياة الاجتماعية والظروف المحيطة.. ترى ماذا كانت قضية الأديب ستار طاهر؟ وماذا كانت وصيته؟! قال الشيخ شاه نقشبندي: الدنيا في الأصل برزخ، فالإنسان يسير طريق الموت من اليوم الذي يولد فيه، وتبدأ أنفاسه تتردد في داخله لأول مرة، وينتهي موته مع آخر نفس له في عالم البرزخ هذا.. ويقول الشيخ: حين يبلغ الإنسان سن الأربعين، فإنه يكون بذلك قد طوى في هذه الدنيا أربعين سنة من مرحلة الموت في عالم البرزخ. . وأنا يا سيدي لا أدري كم مرة مت؟ وما هي الفترة الباقية على استكمال موتي؟ والحقيقة أنني في الأصل لا أدري كم سنة مرت علي؟ وما عمري الأصلي؟... كم عمري المسجل في الأوراق؟ ومنذ متى وأنا في عالم البرزخ؟..منذ كم سنة..؟لقد ابتليت بمرض لا يمكن وصفه، وليس له اسم.. بالتأكيد لا بد أن يكون لي برج ولدت فيه.. لكني لا أدري أي برج هو لأني أعرف أن تاريخ ميلادي المدرج في الأوراق الرسمية ليس تاريخا حقيقيا! لقد أصبت بما أنا فيه حين كنت أجرى مقابلة مع لاعب الكريكيت العالمي المشهور، وكان اللاعب كلما ركز على بيان أن أسباب نجاحاته هي كفاحه المتواصل وتدريباته الشاقة، كلما أوضح أنه منذ اليوم الأول الذي جاء فيه على وجه الدنيا وهو محظوظ، فيوم مولده كان يوم سعده وقال: إنه شخصيا يعرف العديد من الناس ولدوا في نفس اليوم الذي ولد فيه وكلهم بلا استثناء أثبتوا أنهم أناس مشهورون وناجحون.. وأضاف أيضا أن الناس الذي ولدوا في ذلك اليوم يتمتعون بالصحة وطول العمر.. كنت محظوظا جدا بهذه المقابلة، وحين انتهت أشعلت لفافة وأخذت نفسا عميقا طويلا ورحت أفكر وأنا أتطلع إلى سحب الدخان المنبعث من فمي وأنفي على حد سواء: ما هو تاريخ ميلادي؟! هذا التفكير وهذا السؤال وضعاني في سلسلة طويلة ومؤذية لا نهاية لها، ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لم أتخلص من هذا الأذى.. أنا أعرف أنني ولدت في إحدى مدن الهند قبل قيام باكستان.. وأعرف أنه في ذلك الزمان كان إذا حدثت ولادة في بيت ما قامت القابلة أو أحد من أهل بيت المولود بالذهاب إلى مكتب التسجيل، فيسجل اسم المولود ويعود ويحصل بذلك على شهادة ميلاد الطفل من هذا المكتب، وأعرف أن مثل هذا يحدث أيضا في باكستان... في ذلك الزمان وفي القرية التي كنت أنتمي إليها لم يكن الاحتفال بأعياد ميلاد الأطفال رسما أو عرفا راج بين الناس، إذ لم يحتفل أحد قط بعيد ميلادي.. وذات يوم ألبست ملابس جديدة نظيفة ومنسقة ومرتبة على جسمي، وأخذني أبي وذهب بي إلى المدرسة، وفي المدرسة ملأ استمارة لم أكن أستطيع قراءتها، فلم يعلمني أحد في بيتي القراءة أو الكتابة، وكانت أمي من جملة الأميات في قريتي لا تعرف الكتابة ولا القراءة. وألحقت بالمدرسة وهناك أيضا تم إدراج تاريخ ميلادي. كنت في الصف الثاني بالمدرسة الابتدائية حين تأسست باكستان... ثم ذهبنا إلى باكستان.. ولم التحق هناك بأي مدرسة، ذلك لأن أبي انتقل إلى الرفيق الأعلى.. وكأن لأحد أقارب أمي أخ فذهبنا لنقيم عنده.. وذات يوم وبناء على إصرار أمي ألحقت بالمدرسة. في المدرسة وحين كانوا يكتبون الاستمارات نظروا إلي وسألوني: -هل تتذكر تاريخ ميلادك؟ وحين عجزت عن الرد راحوا ينظرون إلي، يتفحصونني، وأخذوا يقولون كلاما غير مفهوم.. ثم كتبوا تاريخا ما في خانة ميلادي.. وكان هذا هو التاريخ الذي استمر يكتب في شهادتي بعد التخرج من المدرسة الإعدادية والثانوية وحتى في بطاقتي الشخصية 3 أغسطس 1946م، وتخرجت في الجامعة مع تاريخ ميلادي الافتراضي القياسي الزائف وأصبحت موظفا في مكتب حكومي، ورقيت لأصبح رئيسا للموظفين، رئيسا من الرؤساء المهمين. لكن...لا.. لا بد أن هناك وثيقة مكتوب فيها تاريخ ميلادي، الذي لا يطابق تاريخ ميلادي الافتراضي القياسي المزيف.. كنت أدرس في الصف الثاني حين انتقل والدي إلى جوار ربه، ثم بقيت مع أقاربي أقضي حياتي في خضوع وخنوع، وأدرس أيضا.. وحين وجدت وظيفة تزوجت عن طريق أحد الأصدقاء..قالت لي أم هذا الصديق تخبرني عمن ستصير زوجتي: -عمرها عشرون..اثنان وعشرون.. وكنت أفكر أنني في الثلاثين، هذا بينما أخبرت أم صديقي أهل عروستي بأنني في السادسة والعشرين، وحين تم الزواج، كتبوا في قسيمة الزواج أن عمري ست وعشرون سنة وأن عمر العروس عشرون عاما. بالنسبة لتاريخ ميلادي الافتراضي كان عمري ثلاثين عاما، وكانت عروسي لا تقل عن أربعة وعشرين.. وبقينا معا نعيش هذه الكذبة بطريقة بارعة.. فلم يحدث بيننا سوء تفاهم على الإطلاق نتيجة لهذه الكذبة، بل لم يحدث أي ذكر لها بيننا، فنحن كما كنا، وكم كانت أعمارنا، كنا نعيش معا. أما صديقي الذي عرفني على الشيخ شاه نقشبندي فكان صديق عمل، إذ كنا نعمل معا في مكتب واحد وكان صديقي منير خان من عشاق الشيخ ومن محاسيبه أيضا، ولهذا كان يكثر الحديث عنه.. وحين جاء الشيخ إلى بلدتنا لعدة أيام حصل لي أيضا شرف مقابلته..! ولكن عقلي وتفكيري كانا قد أصيبا قبلا بلوثة، فقد أجبرتني المقابلة التي أجريتها مع لاعب الكريكيت المشهور سابق الذكر على التفكير في عمري؟! وحين قرر الشيخ شاه نقشبندي في إرشاداته أن هذه الدنيا هي عالم برزخ وأن عمر حياة الإنسان هو في الأصل عمر الموت.. نبهتني فلسفته هذه وأدهشتني بل أفزعتني.. كنت أعلم كم بقي على مدة إنهاء خدمتي الوظيفية؟ وكم بقي على تقاعدي، لكني لم أكن أعرف ما هو عمري الحقيقي، وطبقا لأقوال الشيخ شاه نقشبندي كم المدة التي قضيتها من مرحلة الموت في عالم البرزخ هذا... ورحت أفكر لو أن أخوالي زادوا في عمري حين ألحقوني بالمدرسة في باكستان فهذا يعني أن مدة خدمتي الوظيفية أصبحت قصيرة.. لكن كم سنة؟سنة..سنتان.. ورحت أطمئن نفسي.. ربما كتبوا تاريخ ميلادي أو جعلوا عمري أقل بنصف عام.. لكن كان هناك تساؤل لم أجد لدي جوابا له.. بل لم أجد له إجابة في أي مكان.. - ماعمري الأصلي؟! ما تاريخ ميلادي؟! لم أكن قط اهتم بهذا الأمر من قبل؟ مع أنه ومنذ سنوات في كل جريدة وفي كل مجلة كنت ألاحظ صفحة برجك هذا الأسبوع و حظك هذا الشهر ولكن حين بدأت أخوض في دوامة البحث عن عمري الأصلي وعن تاريخ ميلادي الحقيقي أصبحت هذه الصفحات بالنسبة لي كأنها إعلان عن عجزي.. إعلان بأنني معاق.. لم أكن أعرف ما هو برجي؟ فقد كنت على يقين من أن تاريخ ميلادي خطأ، ولهذا لم أتمكن من معرفة قسمتي ونصيبي..! وراح هذا السؤال يدخل في عقلي يركبني كعفريت شرس.. في البيت وفي المكتب.. فأصبحت سريع الغضب.. سريع التهيج. وذات يوم قالت ابنتي التي تدرس علم النفس في الليسانس، قالت لأمها: - يبدو أن أبي مصاب بمشاكل نفسية. قالت هذا وهي تهمس في أذن أمها.. ولكني سمعت ما قالته فبدأت أصيح وأصرخ، ورحت أتفوه بما يرد على لساني من كلمات لا معنى لها..كنت باختصار أهذي..وفي الليل سألتني زوجتي بعطف شديد: - ماذا أصابك هكذا فجأة؟! فأجبتها: - لا أعرف تاريخ ميلادي. وشاهدت الحيرة تبدو على وجهها فأغلقت عيني، أما هي فبعد سماعها هذه الإجابة المحيرة لم تعد توجه لي أي سؤال. أما ابني أرشد الذي يقيم مع زوجته وحده فقد زارنا ذات يوم، وراح يحدثني في موضوعات مختلفة، وحدثني ضمن ما كان يحدثني به فقال: - ماذا يقلقلك هذه الأيام يا والدي؟ أخبرني فربما أمكنني مساعدتك.. ففهمت أن أمه وأخته أخبرتاه عن حالي.. فأجبته: - لا شيء...أجبته دون مبالاة..إنني قلق فيما يتعلق بتاريخ ميلادي، فنظر إلي في حيرة وتعجب، فأخبرته باختصار عن الأمر كله وقلت له: - اسمع أن تاريخ ميلادي المكتوب في جميع الوثائق والشهادات غير صحيح.. ويظل يصغي إلي باهتمام ثم قال: -أبي..فهمت.. بعد قيام باكستان.. عدد لا يحصى من الناس جاءوا هنا وحالتهم كانت مثل حالتك.. كم من الناس كتبوا تواريخ ميلادهم بناء على قياسهم، فلماذا كل هذا القلق الذي أصابك.. لك أن تتصور تاريخ ميلادك المكتوب تاريخا صحيحا. وسكت فاضطرب لسكوتي ثم قال: -أبي..لماذا تجعل من الحبة قبة بدون داع. -أرشد أنت لا تستطيع أن تفهم هذا الأمر. ورجع أرشد إلى بيته قلقا مضطربا.. يائسا.. ورحت أتدبر كل حيلة لأتماسك، ورحت أطمئن نفسي.. الناس الذين يعرفون حقيقة تاريخ ميلادهم.. هل يؤثر هذا التاريخ في حياتهم؟ لا بد أن الأساس والأصل هو جد الإنسان واجتهاده وعمله المتقن.. لكني أجد نفسي أفكر في اتجاه آخر معكوس.. هل هذا أمر عادي؟ هل هذا أمر بسيط ألا يعرف الإنسان في أي يوم ولد. أليس عن طريق معرفة تاريخ الميلاد يعرف الكثير عن قسمته ونصيبه.. ثم أقوال الشيخ شاه نقشبندي.. بأن عالم البرزخ في هذه الدنيا هو سنوات موت الإنسان.. وكأن هناك دودة راحت تخترق دماغي وأنا في كل لحظة أغرق نفسي في تعقيدات وتعقيدات حتى أصابني المرض..كان مرضي من النوع العجيب والغريب في نفس الوقت.. حالة من الصمت الطويل..ثم ظهور حالة من الهيجان..أخذت إجازة من العمل.. ورقدت في البيت لا عمل لي سوى التدخين.. وهناك فكرة واحدة لا يوجد سواها تدور في رأسي.. وذات يوم رحت أضحك رغما عني وأقهقه.. وفكرت.. حين ألفظ أنفاسي الأخيرة في عالم البرزخ هذا سوف يقول الجميع إنني مت وأنا في الثامنة والستين وسوف يكذبون جميعا.. وهجت وأنا أتصور الجميع يكذبون ثم انتابتني نوبة ضحك رغما عني.. تجمع من في البيت.. راحوا يحملقون في وجهي.. وعلى وجوههم دهشة وحيرة واضطراب..كانت الدموع ظاهرة بوضوح في عيني زوجتي رغم محاولتها إخفاء دموعها، وفجأة حبست قهقهاتي في حلقي وأغلقت عيني.. صمت طويل.. بعدها صدرت أصوات الهمس ثم عم السكون.. وفي يوم وجدت نفسي حزينا تعسا.. رحت أقول لنفسي: أنا إنسان لا يعرف متى ولد؟ وبالتالي لا يعرف عمره الحقيقي..لقد قضيت حياتي كلها حتى الآن مستعينا بتاريخ ميلاد افتراضي زائف.. وفكرت حين أموت سوف يدفنني هؤلاء الناس..سوف يضع ابني لوحة على قبري.. سينقش عليه آيات من القرآن الكريم ثم تاريخ ميلادي وتاريخ وفاتي.. تاريخ وفاتي صحيح بالتأكيد..لكن تاريخ ميلادي خطأ.. في تلك الليلة طلبت رؤية ابني وقلت له: انظر! هذه وصيتي: حين أموت لا تكتبوا على لوح قبري تاريخ ميلادي..لا تكتبوه..هل تعدني بذلك..أقسم بالله على ذلك فهذه وصيتي... تمت نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(20)بتاريخ(1419هـ)