مازلت على قيد الحياة- قصة قصيرة

اطمئني.. ما زلت على قيد الحياة، آكل إذا جاء ميعاد الأكل، وأنام إذا جاء ميعاد النوم.. لم يتغير في حياتي سوى مساحة الشعر الأبيض، التي يتآكل أمامها سواد الفتوة، وتغضن في الوجه يفرض علي احترام الستين،وقد بدأت تشاغلني من قريب، وبدأ جسدي يطامن من عنفوانه في معركة التحدي مع شيخوخة مبكرة..أهي الهموم تفعل فعل السوس في الخشب الرصين؟ قد تكون أولا تكون، غير إني أصبحت زاهدا في الخروج إلى الحياة، وقد صدمت كثيرا في النماذج الرائعة من الناس بعد أن اقتربت منها، ونقرتها بأصابعي نقر الفخار، فانكسرت حدة الألق في نفسي، وورثت الخوف من الجديد..أي جديد. أيهذي التي تشاغلني بهواتفها الصامتة.. ولا تتكلم.. زيارات صامتة يومية؟! أرهقتك أم أرهقتني؟ لا أدري أينا أشقي بها أو أسعد؟ إن كانت زياراتك الصامتة للاطمئنان علي فقد أخبرتك أني ما زلت على قيد الحياة... وإن كانت استجابة لشوق جامح أقض المضجع، فأي شوق هذا الذي استل نصاله وطعن الظهر على رؤوس الخلق في ظل تصفيق وأضواء تشع؟ وإن كان اقتناعا بقديم حديث قد ولده القلب ذات يوم تحت شجرة، فما زال على الكتف متسع لرأس أثقلته الهموم مثلي، وأيقن أن العمر لا يرحم، والناس من حولنا تبحث عن نفسها، وتركض خلف الجديد الفتي، وكلما لاح لهم أفق بكر ركضوا نحوه، وتركوا دفء الوفاء يلملم أشلاءه. دعينا من العتاب المر، فلم يعد في الحلق متسع لمرارة جديدة، لكني أتابع مسيرتك منذ أن كنت عصفورة المنصور، وسيدة حلمي، وجنية أحمد، وربما اليوم جارية الوليد.. لا أدري ماذا يخبئ الزمن الجديد من مزيد؟ لكن الذي استقر في النفس أن كل إضاءة جديدة خلفها عتمة مظلمة للروح، ودرب موحل..تلك هي الحقيقة الموجعة. أقول: دعينا من العتاب المر، فلست اليوم أقايضك العتاب، لكني ألج مساحة الصدر الحنون الذي احتضن رأسي ذات ضحوة، وجفف الدمع من موقي، ووعدني بسعادة غامرة، واسترد وعده إذا لاح برق خلب. دعيني أقف عند ظني الأول.. غاضا الطرف عن احتمال أن يكونتموز بما يحمل بين دفتيه من فتيت الذكرى خلف تكرار هواتفك الصامتة. دعيني أقف عند ظني الأول... فاطمئني... ما زلت على قيد الحياة.. غير أن الحياة بدأت تدير ظهرها لي في كل شيء، وبدأت تسلبني مكاني.. وبت أمني النفس بالراحة والفرح لما يمن علي ببقائه إلى حين. بالأمس كنت السيد المطاع ومن حولي تابع لي، فأنا الرأس..ولي الصفي والنشيطة والفضول والمرباع لكني لاحظت تغيرا يتسرب من تحتي، وينزع الكرسي على مهل حتى لا أفاجأ بأني أمسيت بلا كرسي. كانت زوجتي- إذا قسمت الطعام- تخصني بأجود الحصص وأكبرها، واليوم- يا ويح اليوم- أصبحت هذه من نصيب غيري.. في البداية رمقت الأمر بشي من الامتعاض، لكنني أقنعت نفسي بأن ابني الرياضي الفتي الذي خصته بدلا مني.. هو اليوم أولى مني.. فجسدي لا مستقبل له، أما هو فيحتاج إلى طاقة لبناء هذا العضل المفتول..أقنعت نفسي فاقتنعت.. واسترحت. لقد أصبحت جدا حقيقيا منذ شهور، حفيدتي التي تشبه أباها الذي يشبهني سمراء متواضعة الجمال- لكنها عندي حلوة الحلوات- أضع صورتها فوق مرآة تسريحة غرفة نومي، أناغيها كلما نظرت إلى وجهي في المرآة، أخاطبها: وينك يا بنت أنت وينك ألثغ بلغتها فيتفطر القلب حنينا إلى شغبها...أمها تحتجزها رهينة مقابل دراهم سرقتها مني يوم أن تواطأ بعض دمي معها في سحق حلمي وتحطيم كبريائي، فلما تبين له عتمة الطريق؛ نكص على عقبيه باكيا مستنجدا من وهم الصدر الحنون الذي مني به.. منذ سنة أو يزيد وهي تساومني لكسب المزيد.. هيهات ..شب عمرو عن الطوق، وتناثرت حبات مسبحة شاء الله أن تجمع بين يديها يوما من التاريخ فما صانتها، وظنت كل رجل شهابا.. فانفرطت.. هل تريدين من أخباري المزيد؟! أمسيت أحن إلى تربة تضم عظام أبي، وتضم صلابته وشموخ رأسه، وهأنذا ألملم ملهياتي، وأوحد همومي لعلي لا أهلك في واد من أوديتها. ها هي ذي الأمراض تفرض زيارتها علي- وأنا الأبي- فلا أملك ردها، بعضها يطيل المكث، وبعضها يرحل إلى حين، وآخر استوطن ولا حيلة عندهم لإخراجه، فأمسيت أداهنه. وأقني له بعد أن نصح الطبيب تعايش معه فما رأيت ألد من هذا الرفيق الذي يطربه أنيني.. استغفر الله من حنين إليك قاومته زمنا، وعضضت على المر حتى انقاد لي...لكنني أتوب إلى الله من خيال جامح يتأبى علي، فكلما وسدت رأسي هرب مني مهاجرا إليك فلا أسترده إلا قبيل صلاة الصبح. وعند المساء وقد أنهكت الرحلة الشمس فاحمرت خجلا من الهزيمة، أرطب جوفي ثم أدعو الله فيأتيني رنين هاتفك الصامت... يلح في الرنين، لكأنه يذكرني بك- وهل نسيتك؟! -أقطع دعائي وأقوم إلى الهاتف.. أرفع السماعة.. فتصمتين ولا تجيبين.. فيغفل القلب عن الدعاء. هل تريدين من أخباري المزيد؟! في آخر محطات العمر أمست لي وظيفة جديدة: سائق خصوصي في البداية امتعضت وثرت، لكن ثورتي اصطدمت بواقع مر أملى علي الرضا، حيث لا بديل أقدمه فأصبح جدولي اليومي مقرونا بحوقلتي: الصباح، أوزع الأبناء على أعمالهم، وعلى أن أعود إلى المنزل لأكون في خدمة سيدته، فإذا أمرت بإحضار الخبز، ذهبت فسلكت نفسي في صف ممتد، ينز العرق من مسامي كلها، وأزحف زحف السلحفاة، حتى إذا وصلت أمام الميزان تصنعت ابتسامة أزين بها وجهي، استمطر رضا البائع حتى لا يدس رغيفا مشوها أو محترقا أو مجروحا بين ثنيات الأكياس.. فإذا جاء موعد الغداء: خرجت لا ألوي على شيء، حتى أكون في مكاني أمام مدرسة الصغيرة فلا تقلق أو تخاف، فنحن حريصون على راحتها المربوطة بالدرجات التي نأمل أن تنالها في امتحان التوجيهي.. وعلي بعد ذلك أن أتذكر كل أمر نسيته سيدة البيت حتى لا أضطر للخروج عصرا لإحضاره، أما الحفلات والأعراس والمناسبات.. فعلي ألا أرفض واحدة منها، حتى لا أعزلهم- في ظل حكمتي وتجاربي- عن المجتمع..في البداية، ضقت بهذا الأمر ذرعا، ورفعت عقيرتي احتجاجا، لكن الحياة خضدت شوكة الإباء عندي، فاستسهلت الأمر بعد.. ? طيبت خاطري بالتعلات، فامتثلت نفسي.. وغاب الإيلام،. ما زالت أصابعي تتأبي علي فلا تكتب ما أريد، رغم ضجيج الذاكرة، إلا أن أصابعي مشدوهة أما هذا العنفوان المتلاطم من مشاعري... حتى لساني حرن هو الآخر، فلم يعد يستجيب لي.. فتركت سدة المحاضرات لغيري.. وانصرفت أوحد همي فما توحد.. هذه سنة كاملة تمر وأنا أراقب هذا الجنون. أتذكرين يوم المشتل؟ يوم أن ترجلت أبحث عن نبتة قد عشش منظرها في مخيلتي حتى تجذر في تربة الإعجاب عندي، فما وجدتها.. يومها..زرعت على الرخام كل أزهاري، وتركتها تغرس جذورها في حنايا القلب.. ثم افترقنا.. وكلما مر أحدنا من هناك، دعا للآخر بالسعادة..أتراه كان وهما هذا الذي يصفق بجناحيه بين الأضلاع وينمو؟ قلت لك ذات همسة: إن الحب العظيم يحتاج إلى ألم عظيم حتى ينضج...فهل ترانا استكملنا حلقة الألم العظيم حتى نقطف ثمار الوجد المضمخ بنار الحنين؟ أينا ضل الطريق؟ أينا أشعل الحريق؟ أينا أغواه البريق؟ والعمر يركض.. ألهثته إحباطات الحياة فاستسلم للشيب يغزو القلب، وقد فرت الدنيا من بين الأصابع..فهل أتابع؟! لا.. وألف لا.. ورحلت عنك..وامتطيت صهوة الصوم أسابق العمر، فلا ليلا أنام ولا نهارا، وسميري آيات تنازعني التفلت والفرار، والذاكرة تخون، فأكابد وأكابد.. فتأتي هواتفك الصامتة...زيارتك الصامتة...في السحر.. في الصباح..في الضحى...عند الغروب في كل وقت.. أتراه الشوق أضناك؟ أم معرفة أخباري؟ إن كانت الأخرى، فاطمئني، ما زلت على قيد الحياة. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(24)بتاريخ(1420هـ)