وداعا أجمل الأمهات!

القصة الفائزة بالجائزة الثانية في مسابقة القصة القصيرة لرابطة الأدب الإسلامي العالمية. يلصق رأسه الصغير فوق كتفها، ويلتف بذراعيه القصيرتين حول عنقها بقوة وهي تمشي في هدوء وعلى مهل، بينما تنسدل خصلات شعرها الأسود الطويل الذي تغازله الريح على ذراعي الصغير ووجهه، وتستجيب طائعة تلك الخصلات لنسمات الهواء، فتطير معها وتعود لتهبط على الصغير من جديد وكأنها تهدهده لكي ينام أو يشعر بالأمان..تسير الأم بثوبها الذي يصل إلى ما تحت الركبة بمسافة تصل إلى حد الاحتشام، وترتدي فوقه قميصا أبيض خفيفا يرتمي فوقه الصغير بتسليم مطلق باتجاه حديقة الفندق، حيث تتفرع صفوف الشجيرات الخضراء من بوابة الدخول إلى الحديقة، وتصل قاعة الفندق الرئيسة بالساحات الخلفية التي جلها مساحات خضراء من العشب الطويل، تفصلها بشكل منسق صفوف الشجيرات الخضراء متعددة الأحجام، بينما يتوسط ذلك كله بركة ماء واسعة تقف على إحدى زواياها شاخصة تحمل تعليمات السباحة. سحرني منظر الطفل الملتف حول عنق والدته، وشدني عن المنظر الطبيعي الخلاب للمسطحات الخضراء التي يفصلها عن الامتداد البديع للبحر مساحات مشابهة من الرمل الأبيض الناعم، كان وجه أمه الدافئ هو وجه أمي رغما عن أن أمي كانت تغطي شعرها دوما؛ مما كان يتيح لوجهها فرصة أوسع لإشعاع الدفء في كل الظروف، إلا أنني رأيتها الآن وشعرت بأن الدفء واحد، وأن الحنان الذي في الصدور ينبوعه واحد فلا انفصام، وأن الجنة التي أيقنت يوما ما أنها تحت قدمي أمي هي ذاتها الجنة التي تحت أقدام كل الأمهات. مطعم الفندق الذي أجلس بجانب حاجزه الزجاجي يطل على الحديقة، وهاأنذا أراقب خطوات الأم الشابة وحركاتها، وأتنقل معها بنظراتي إلى داخل الحديقة، تتوقف يدي التي تحمل ملعقة الطعام المتوجهة إلى فمي في منتصف الطريق، وأنا أتسلل بعيوني من بين زحام المطعم وتقاطع الداخلين والخارجين من المدخل الذي يربط الفندق بحديقته الخلفية، لأتحسس وجنة الطفل وليغمرني شعور دافئ غريب بالحب والحنين فأنقطع عن الأصوات المتعالية هنا وأنسحب سريعا من ضوضاء المطعم لأشعر وكأني ذاك الطفل أنعم بحنان عظيم. يداها تمتدان على جانبي فراشي وهي تنحني تتحسسه وتتأكد من التصاقه بجسدي كله وعدم نفاذ الهواء من أية بقعة مهما صغرت إلى داخل الفراش، لا سيما عن الجانبين، هي تعلم أن نقطة ضعفي حتي في فصل الصيف تكمن في البرد الشديد الذي أعاني في الليل حين أخفق في اختيار أغطية مناسبة، فكيف والأمر في عز الشتاء!! تظنني نائما فاسمع ليلا حركتها المتأنية وهي تأتي إلى غرفتنا- غرفة الأولاد- لتقوم بالاطمئنان علينا جميعا وعلي أنا على وجه الخصوص بسبب الحساسية الفائقة للبرد. كن أنتظرها في كل ليلة من دون أن تشعر بيقظتي لتأتي بحنان فياض على الرغم من المرض القاتل الذي تسارع، ينهش نشاطها وحركتها الدائبة، ولتقوم يداها بإسدال فصل النعاس الأخير على عيوني الدامعة من جراء مرضها. لازم الدمع عيوني بدءا من ذات التاريخ الذي بدأ فيه جسدها يذوي، وكنت وأنا أغادر كل صباح ألثم يدها بقبلة الخروج التي اعتدت عليها لاستفز كل صنوف الأدعية لي بالتوفيق وكل عبارات الرضى ثم أغلق الباب خلفي، أرفع يدي وأمسح الدمعات وأجول ببصري في السماء: أن يا رب.... دخلت والطفل المعلق برقبتها يزداد تشبثا، وفي يدها يرتبط طفلان آخران، ويتوجه الركب إلى داخل الحديقة وباتجاه البركة... قبل الوصول انفرط عقد الطفلين، وركضا جذلين نحو البركة ووقفا على أحد جوانبها يتخففان من ملابسهما، وما أن وصلت الأم حتى كانا جاهزين للعوم والغطس، ونزلا فعلا وتعالت أصوات البراءة فوق جو البركة تصنع إطارا ساحرا من الفرح الغامر، شاركت فيه بكل مشاعري ونظراتي المتوثبة ويدي المتوقفة منذ فترة في منتصف المسافة بين الصحن وفمي. تحركت الأم إلى أحد المقاعد، وفكت شبك اليدين الصغيرتين من على رقبتها، وأجلست الصغير وهيأت له مكانا أوى إليه، ثم تخففت من قميصها الأبيض، وتحرر ذراعاها من القميص كما تحررا من قيد اليدين البريئتين قبل ثوان.. كانت صفعة!! فتحركت في عيني دمعة راحت تتصارع مع الجفون ومع الإرادة تصر على الهبوط لتكتب على خدي عبارة عتاب، بينما يدافعها الحياء والخوف من علامات الدهشة والسؤال التي سترسم على رواد المطعم إن رأوها تتبختر على خدي، فتندفع إلى داخل الجفون رغما عنها، وتختنق هناك في الداخل دمعة كسيفة مكبوتة. ما عدت طفلا وما عدت يافعا أيضا، فلقد صافحت الرجولة إذ أغادر يوميا إلى الجامعة أبحث فيها عن شهادة تقر بها عينا أمي التي يملأ الخوف قلبي عليها من ألا تطول بها الأيام لتهنأ برؤية شهادتي، فالمرض الخبيث يستفحل في الرئة والكبد كما تفيد آخر التقارير، وبالتالي تزداد غيوم الدمع كثافة في عيني وأرى الشمس تغيب في غير موعدها، مخلفة ساعات النهار أقصر من ذي قبل وضياؤه ليس كما السابق. حدة سعالها تتضاعف وهي تزحف بتؤدة نحو فراشي لتطمئن على أغطية النوم التي تتكوم فوقي وأنا أنتظرها وأتظاهر بالنوم... في تلك الليلة بكيت كثيرا حتى تبللت الوسادة، ثمة هاجس مخيف طاردني حتى ساعات الفجر، وفي الصباح كنت أحرق الساعات وأنا أقف بوجوم أمام غرفة العمليات بالمستشفى. ذراعاها مشرعان للشمس وللرواد في البركة وأنا لا أراهما، أرى بقية جسدها المستور ولا أرى ذراعيها اللذين آلماني...كانت أمي لا تشرع ذراعيها للشمس وللرواد في البركة.. بل ما زارت أمي يوما ما بركة. حركاتها الجديدة تنبئ بشيء مهول.. ترى ...هل ... لا...لا ... قلبي تتسارع دقاته... ويتسارع هتاف مخنوق في داخلي.. يا رب.. يا رب.. احفظ عليها أمومتها.. شعرت بعاطفة جارفة تجاهها.. وتمنيت لو أستطيع تقديم شيء.. أي شيء من أجل ألا تخسر سوى ذراعيها..أن أركض إليها وأقنعها ألا تفعل...أن تبقى كما كانت...أن تبقى أمي.. أو صورة أمي..، لكن... لكن تتناول طرف ثوبها من أسفله ثم... لا..أمي لم تعرف السباحة..أمي لا تسبح.. بل تكره أيضا زي السباحة. والدي المسكين يتجول كالأسد الجريح أمام غرفة العمليات بالمستشفى، وجميعنا يتبادل النظرات مع جميعنا، ونترقب خروج الطبيب بنظرات ترمق انفتاح الباب بيأس كسيف. خلعت ثوبها وتلألأ الجسد الناصع واستهلكته بثوان قصيرة أشعة الشمس ونظرات المرتادين... جسدها المتلألئ تحول إلى شبح أسود قاتم.. بينما بدأت الشمس تغطس في آخر البحر بعد أن احمرت خجلا..، نظرت بسرعة تحت قدميها.. ذهلت إذ ما عادت هناك جنة.. كان الطين كله هناك. قبلها كان الطبيب يربت على كتف والدي ويطلب منه الصبر والثبات، وكنت قد انتحبت بكاء وودعت أجمل الأمهات... نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(2)بتاريخ(1414هـ)