لجنة الكبريت

أخيرا وقع المحظور، اقتربت النهاية، النقاط تتقافز يمنة ويسرة، وفي كل اتجاه، أوشكت على الاستقرار، ويدخل دوامة الأقوال، عليه أن يهيئ نفسه للصراع مع المحقق، مع الاتهامات، مع بعض النقاط التي لا تزال حائرة تهدد.. منذ عاد من رحلة الحج، يتقلب على الجمر، يسير في الطريق كتائه، ينصرف عمن يحدثه كغبي أحمق، بعض الرؤساء يتهمونه بالدروشة، وتلوث العقل بالخرافات، كل المعاناة في البيت، الابن يقرن كلامه معه بالتشويح، والاتهام بالشيخوخة المبكرة، الابنة ترثي حالة في صمت، تكاد تبكي في حضرته، لا تجرؤ على انتقاده، الزوجة يئست من إصلاح حاله، تبحث مع عائلتها خطوات الحجر على عقله، تخشى الإملاق، العودة إلى الحياة المغمورة القديمة.. يقضي كل أوقاته باحثا عن السبيل، لا يريد جرعة ماء، ولا ضوء شمعة يهديه في الظلام، يريد الهروب من الشباك التي وقع في حبائلها، لا يستطيع الفكاك من براثن الطيور التي سقطت معه، وأعجبتها السقطة. - لا يا رجل، لا يهمك شيء، لا أحد يدري.. يقول وهو أقرب إلى البكاء: - الرائحة تسري من الأنوف إلى الأفواه، تترجمها الألسن في خفوت.. الطيور تحيط به، يتصدر باب منجم الذهب ولا سبيل إلى إغلاقه ولو قامت الحرب العالمية، تساوت كفتا ميزانه، الحياة والموت، عمل لحياة أسرته نهرا، فاض النهر، وأغرق فيضانه الأهل والمعارف والأحباب، وجد نفسه أخيرا ضد تيار النهر الذي أنشأه من عدم.. لعن المؤسسة التي التحق بها، بعد ما صار مسؤولا عن أسرة، عين في المخازن، عضوا بارزا في لجان شتى، المشتريات، المناقصات، المقايسات، لائحة المؤسسة صريحة، من تثبت إدانته يفصل دون تنبيه أو إنذار، تسقط كل حقوقه، يحال إلى النيابة العامة، إذا كانت جريمته جسيمة. كافأته المؤسسة بترشيحه للحج، زميله استغفر وتاب وأناب، دفن نظيفا من أدران الحياة في الأرض الطاهرة، برئيا مما اقترفت يداه، أما هو ففي صدره شيء يرفض الغفوة أو النوم، استقامة الأمور أمل تدفعه الطيور عنه، تنهش لحمه بأظافرها المدببة الدامية، تكدست الأوراق أمامه، كلما امتدت يده للتوقيع أصابها الشلل، دموع عينه ساحت بالحبر، واختلطت الحروف، وقع في تحقيق إداري لتكاسله عن إنجاز أعماله، نال لفت النظر.. التوعد من الرئاسة، إذا تكررت المخالفة، الوعيد من الطيور، إذا حاول غلق باب المنجم، أو حال بينه وبينهم، الثورة متأججة في البيت لإغلاقه أذنيه أمام مطالبهم الكثيرة، في المسجد يهتز وجدانه، يتزلزل كيانه، قال الله وقال الرسول، والإمام، كان في ديارهم، أخرجوا قلبه المتدرن، وأبدلوه بقلب كقلب الطفل، أخرجوا معدته وطهروها من الحرام، انتزعوا عينه الشبقة المتطلعة، وقف عاريا وغسل بدنه بماء زمزم الطهور.. الطيور جارحة فتاكة، تشهر السيوف القديمة، تنغرز ذؤاباتها في رقبته، صدره، قلبه، ظهره: - وقع الأوراق، وإلا كنت وحدك الفداء.. فكر في الاستقالة، لا يستطيع التكهن بما تحمل بطن الأيام، غنى اليوم قد يصبح إملاقا، رصيده المتضخم قد يصير أصفارا، فيلاته قد تنكمش إلى شقة، رفاهيته قد تصبح ضنكا، استبعد فكرة الاستقالة، لاستحالتها مع تقلب الدهر، وفقدان أمان الأيام... فكرر في الانتحار، كان في الجنة منذ أشهر قليلة، اليوم يزج بنفسه في النار، أيجحد نعم الله عليه؟ يقول يائسا ياليتني ما ولدت من أربعين سنة، ويا ليتني ما ولدت ثانية منذ عدة أشهر، استبعد فكرة الانتحار لتناقضها مع حقيقة نواياه. انتهت اللجان من الاتفاق على هدايا السنة الجديدة، وقع الأوراق تحت ظلال السيوف، قدمت الدعوى إلى المحكمة، تحدد موعد جلسة الإعدام.. وقف كالمذهول، محامي الخصوم، يتهمه بالسفه، وفقدان العقل والاتزان، يطلب الحجر على تصرفاته، التي بددت بعض ما لا حق له فيه، الخصوم زوجته وأولاده يؤكدون وقوعه في براثن بعض الدراويش، ينفق عليهم بلا حساب، يخشى الخصوم أن يتركهم فريسة للفقر والعوز، القاضي يطلب منه الرد، ختمت المفاجأة فمه بالشمع الأحمر، تأجلت القضية لحين استطلاع رأي المؤسسة. بدأ توزيع الهدايا على الموظفين، على المؤسسات الأخرى والشركات، ملأت الطيور أعشاشها بالقيم منها والثمين، زادت حصيلتهم هذا العام باقتسام حصته، رغم أنه وقع كافة الأوراق.. أخيرا وصلت صناديق الكبريت إلى المخازن، نوع من الإعلان اخترعته اللجنة، لما فيه من مغنم كبير، تسرب خبر عن عمولات لاختيار أردأ الأنواع بأعلى الأسعار، تدلى حبل المصباح لإصابة عينيه بالرمد، تراقص حبل المشنقة مكللا بتاج الفضيحة المزدان بالأجراس، الأجراس لا تكف عن الدق، تنطفئ مصابيح صغيرة داخل رأسه، تبدو كفقاقيع رغوية فوق سطح الماء، لا يسمع لها صوت، تموت خلايا جلد الرأس، ينتزع شعره ولا يتألم، شيء ما في القلب يضمر، الرائحة تجوب أروقة المؤسسة، تتسرب إلى الحجرات من تحت الأبواب، تدور رحى الكلام، ويرتفع الصوت ويصك الأسماع، لأنها تسحق الحجر، يتسرب خبر من مكتب رئيس المؤسسة بإحالة أعضاء لجنة الكبريت إلى النيابة العامة، أشعل عود ثقاب، لثم اللهب طرف سيجارته، أطفأ العود وألقى به أرضا، تناول أنفاس الدخان في هوادة، يسبح مع موجات الدخان كطائرة ورقية في الهواء، شيء بالرأس تمدد، انكفأ رأسه فوق المكتب، سقطت السيجارة، تدحرجت، قبلت ذؤابتها المتوهجة أول صندوق كبريت صادفها. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(7)بتاريخ(1416هـ)