عودة المغترب

أدهشه منظر عمان من الجو. غادرها قبل خمسة عشر عاما وهي مدينة مكتنزة على تلالها السبعة، ويعود إليها الآن وقد ترامت أطرافها فسبحت على الحقول المجاورة وصعدت سفوح التلال وتربعت على قممها، من الغرب ارتبطت بمدينة صويلح، ومن الشرق زحفت في الصحراء، ومن الشمال خالطت مدينة الرصيفة، ومن الجنوب اقتحمت حمى قرية الطيبة. ولاح له المطار..بناء ضخم ينهض على طرف الصحراء كأنه قلعة في تلك الصحراء، لصد غارات الأعداء عن المدن والقرى. قال له جاره في الكرسي في الطائرة: - هذا هو المطار. أجابه منكرا. - المطار لم يكن في هذه الجهة، ولم يكن بهذه الضخامة. أجابه جاره وهو يبتسم: - هذا المطار الجديد، المطار القديم أصبح مخصصا للرحلات العسكرية وبعض المهمات الخاصة. قال كالمعتذر: -نسيت..لقد كتبت لي زوجتي قبل عشر سنوات تخبرني-مما أخبرتني- أن مطارا ضخما حديثا قد بني في جنوب عمان. حطت الطائرة، أجريت معاملات ختم الجوازات بسرعة، خرج القادمون إلى الصالة. أخذ سعيد يمد بصره يترقب أسرته.. بعد تردد أقبلت عليه سيدة في الخامسة والأربعين، حدق فيها عرفها وأنكرها.. هي زوجته أم جديد لكنها تغيرت، جبينها بدا مخططا بخطوط جلدية خفيفة، عيناها خف بريقهما، خلف الحنك تغضن يفصل بينه وبين مسيل الخد ... (لشد ما تغيرت يا أم جديد).. سلمت عليه، بكنيته: -كيف حالك يا أبا جديد.. صافحته، ولكنها خجلت أن ترحب به بأكثر من ذلك. -كيف حالك يا أم جديد؟ الحمد لله الذي جمع بيننا بعد طول فراق. ابتسمت فبدت حزوز على أطراف فمها، وهي تغض من بصرها: - يستأهل الله الحمد. وتقدم بعدها إليه شاب فارع الطول ذو لحية مستديرة...تحيط بوجه كأنه صفحة بيضاء، قالت أم جديد: - هذا جديد يا أبا جديد.. صافحه.. انحنى الشاب عليه عندما هم بتبادل القبلات مع أبيه، (ما شاء الله..هذا جديد الذي تركته طفلا في العاشرة، ها هو رجل ملء السمع والبصر، أطول مني، أشد بياضا مني، يبدو أنه ملتزم بالإسلام ...مثلي) وتقدمت بعده فتاة ربعة شقراء قد غطت شعرها بخمار منقط، يغلب على ألوانه اللون الأخضر كأنها أم جديد عندما خطبها قبل خمسة وعشرين عاما، غير أنها أكثر صقلا من أم جديد. قالت أم جديد: -ابنتك سناء.. سر بها، صافحها، وضعت يدها على رقبته، وقبلته بلهفة على وجنتيه وعلى الجبين.. لشد ما تمنيت يا أبي أن تكون إلى جانبي وأنا في الجامعة، كنت أحتاج إلى علمك في الفيزياء، وهي المادة التي درستها-أنا- كما درستها أنت..ابتسم، وأشار بيده وقال: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. بل بما لا تشتهي الأقمار.. مثلك... وكانت تقف خلف سناء فتاة برونزية اللون، تلبس خمارا بنيا، تفرع سناء طولا. قدمتها الأم فقالت: -ابنتك سوسن، في السنة الأولى في الجامعة. صافحته سوسن، ولاحظ وهي تقبل وجنته أنها تطاوله بل هي أطول منه قليلا.. التفت الأسرة حول الوالد، أما هو فقد أدار عينيه..هنا وهناك، فترقرقت في عينه دمعتان، سرعان ما جففهما.. نظرت الأم إليه فأخذت الدموع تنهمر من عينيها.. أحاط بها الأولاد وخففوا من لوعتها في هذه الحالة.. - أهكذا نستقبل أبانا يا أماه؟! احتاجت الأم إلى دقيقتين حتى أفرغت شحنة الحزن في نفسها..قال لها الوالد: - وبلال كيف صحته؟ قالت وهي تغمض عينها تحاشيا لأن تلتقي عيناها بعينه: -لا بأس، أصبح شابا، في السابعة عشرة، كما تعرف، لقد سافرت وعمره سنتان، ولكنه ضاوي الأطراف. -ومن يعتني به؟ -كنا جميعا نعتني به، ولكن عندما بلغ الرابعة عشرة، وأصبح شابا..ولم يعد من اللائق أن تتابع خدمته أختاه.. -هذا صحيح.. قال جديد: -الحمد لله يا أبي على كل حال.. لعل الله قد أتى بأخي بلال مشلولا ليحط به من ذنوبنا. إن خدمة من يحتاجون إلى خدمة يكتب بها للمرء حسنات،وتحط عنه سيئات.. لا تيأس يا أبي، الحمد لله.. سر عنك يا أبي... وفي الطريق، بعد اليادودة إلى صويلح حيث تقيم الأسرة، اندهش الأب من مناظر الدارات والقصور التي تنهض على جانبي الطريق، وعلق: -تغيرت الأردن في هذه السنين التي غبت فيها عنها.. تدفقت الأموال في فترة الطفرة، ما بين عام 1975و عام 1983، فأقام الناس الدارات والقصور، أما كان يمكن للحكومة أن تضع سقفا للحد الأعلى للمبلغ الذي يقام به السكن الشخصي، حتى توفر الأموال للمشاريع العامة، لكي يقضى على البطالة؟ نظر خالد إلى أبيه من زاوية عينه اليمنى وهو يقود السيارة، وعلق: -للأسف، الحكومات المتعاقبة أخذت بالنظام الرأسمالي الغربي، فقاد إلى الهلاك..وعلقت سناء: -في الغرب، وإن أطلقوا العنان لرأس المال، غير أنهم حفظوا حقوق العمال، لا كما في بلادنا وعلقت الأم: -في الحقيقة لا خلاص لبلدان العالم الثالث إلا باتباع النظام الاقتصادي الإسلامي، النظام التكافلي، وعاد الأب يقول: -بل لا خلاص للعالم كله مما يتردى فيه من ويلات، إلا بالإسلام، طول الطريق جعل الأب يسأل الأسرة عن أحوال الجيران والأصدقاء وهم يجيبون حتى سأل عن جارهم أبي نعيم فوجم الجميع، كانوا يعرفون أنه صديق عزيز عليه.. نظر إليهم: - لم لا تتكلمون.. -واستمر الصمت. قال الأب: -أمات؟ صمت الجميع وأنغضوا برؤوسهم دلالة الموافقة.... -وكيف مات، كان كالحديد! -أصابه مرض خبيث لم يمهله إلا ثلاثة أشهر... ... في الدار.. أخذ الأب يقارن بين صورة العائلة المعلقة على الجدار التي التقطت قبل سفره بأسبوع، وبين ما أصبحت عليه الآن..(الأولاد كانوا أطفالا، فأصبحوا ناضجين، وأم جديد كانت في عز الشباب فأصبحت أقرب إلى الشيخوخة منها إلى الشباب.. وأنا .. تغيرت.؟ نعم تغيرت ولكن قليلا..) وأحس أن نفسه تغص بشعورين متباعدين: هو سعيد، مسرور، لأن أبناءه قد أصبحوا شبابا، لكنه مغمور بالأسى؛ لأن الأيام تحمل في طياتها التغير( كل شيء هالك إلا وجهه) صدق الله العظيم.. أما كبرت أم جديد؟ أما مات أبو سليم الذي كان كالحديد؟ أما كبرت عمان وتمددت حتى سالت على الحقول والتلال المجاورة. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(2)بتاريخ(1414هـ)