نهاية البداية

في اللحظة التي طرق فيها الباب اكتنفه اعتقاد جازم بأنها سوف تعنفه. ولم يكن ذلك الاعتقاد وليد ظروف طارئة، بل كانت تلك هي عادتها كل مساء. فما إن تفتح له الباب وتستقر قدماه على بلاط الصالة حتى تبدأ نوبة اللوم والتقريع، وكان دائما يتجاوز عن كل الإهانات، ويظل في مكانه دون حركة إلا النظر إلى مقدمة حذائه القديم. ذات مرة قال لها إنه (سيحاول) الإقلاع عن المخدرات، بيد أن تلك العبارة كانت تفتقر إلى الصدق، رغم أنه كان يقنع نفسه دائما بأن كل شيء سيكون في يوم ما على ما يرام، وسيأتي الوقت الذي يقول لها رافع الرأس: -لقد انتهى كل شيء ولا داعي للمزيد من التفكير فيه. كان ذلك هو حلمه المستحيل. فهو يدرك بصورة حادة أن المخدر قد تمكن منه إلى الحد الذي أصبحت معه حياته كلها معلقة بمجرد (شمة) واحدة. مرة ثانية طرق الباب وهو يشعر بالانقباض، لم يكن للمخدر الذي يسري في جسده كل القدرة على التقليل من انقباضه، لقد لازمه ذلك الإحساس منذ الصباح وقبل أن يحصل على النقود التي اشتري بها ذلك السم. ثم ما لبث أن فارقه، وها هو يعاوده بعد أن طرق الباب مرة ثانية وثالثة دون أن يسمع وقع أقدامها وهي تقترب خلف الباب المغلق. ولأول مرة يلاحظ من خلال زجاج الباب أن شقته مظلمة وأن مصباح الصالة مطفأ على غير العادة، ورفع حاجبيه في محاولة صادقة للفهم، ثم نظر إلى السلم ليتأكد من أن المخدر لم يغلبه ويجعله يطرق باب شقة أخرى. وشعر بالحيرة من كل ما يحيط به، ترى: هل حل اليأس بالزوجة التعسة فآثرت الرحيل؟، وماذا عن الابن..ابنه..ذلك الشيء الشاحب الذي لم يتجاوز السنوات الخمس والذي يبدو كزهرة ترتعد..هل... وحملت إليه تلك التساؤلات صداعا شديدا، وأحس بأن شيئا غامضا-لكنه شديد الإيلام- يوشك أن يتم ويتحقق كلما مضى الوقت. وعند ما مد يده ليطرق الباب في محاولة أخيرة يائسة، شق السكون صرير باب مجاور يفتح، وبرزت منه عجوز مرهقة، سرعان ما انثال الكلام من بين أسنانها حتى أغرق المكان. وبعينين خابيتين كان ينظر إلى التجويف الذي خرجت منه الحكاية، والتي كانت تثير الهلع والوجوم، ذلك؛ لأنها خلت من أي شعاع للشمس، فقد حدث كل شيء في شارع كئيب، ولم يكن في وسع المرء أن يجد أية شخصية مبتسمة. كم من الوقت ظلت العجوز تقذف بالكلام الذي اخترق الأذنين وترك حفرا عميقة في القلب؟!...إنه لا يستطيع التحديد، فالساعة التي كانت تزين معصمه ذات يوم باعها مع الكثير الذي باع منذ فصل من عمله. لكن المؤكد هو أن أحدا لو رآه في تلك اللحظة وقد انحنى رأسه، وتشابكت أصابعه فوق بطنه لظن أنه يصلي، لكنه كان...يبكي. وجمعت العجوز أطراف شالها حول جسدها، وعندما أغلقت بابها خلفها شعر كأنه يسقط في قاع هوة بلا قرار، وهو في غمارها يهتز، يذوب، يتلاشى. وفي آلية استدار، وتخطت قدماه الحفر المنتشرة على السلم بصورة آلية أوجبتها العادة، وصفعه التيار البارد وهو يترنح أمام الباب الخارجي، بيد أنه كان واثقا من أن أحدا لا يلحظه. وتبين وهو يسير أن حركته لم تعد دقيقة محكمة ولم يكن ذلك بالأمر الجديد عليه منذ أن أحاطت بعنقه أنشوطة الإدمان. ولم يعر الأمر اهتماما فليس للجسد أية أهمية ما دام ذهنه صافيا، يستوعب بشكل مستغرب كل أحداث الظهيرة. نعم...إنه يذكر أنهم سألوه: -هل كنت موجودا لحظة الحادث؟ بالضبط.. كان ذلك هو نص السؤال الذي وجه إليه، والشيء الوحيد الذي كان مزعجا في تلك اللحظة هو شعوره المخيف بحاجته إلى المخدر. - نعم.. كنت أجلس بجوار السائق. وتتابعت الصور.. وكان من السهل عليه ترتيبها حتى أصبحت شيئا منظورا، إلا أن أبرزها كانت صورة الرجل السمين ذي الملابس الرسمية. -جاء في أقوال السائق أن .. وتوالت الأسئلة.. وكان واضحا أن الأمر سيكون في غاية الدقة والتعقيد، ولا بد في معالجته من بذل عناية خاصة، ولم يكن ذلك بالشيء الجديد عليه، فقد سبق له في مرات عديدة أن جاءوا به من المقهى ليقف في مثل هذا المكان، تحيط به الملابس الرسمية ليدلي بشهادته في حادث ما، كان ضحيته شخص ما. كانت تلك مهنته الجديدة.. مجرد شاهد زور بعد أن فصل من عمله بعد إدمانه للمخدرات وغيابه المتكرر وتصرفاته السيئة مع العملاء. والغريب، أنه في زمن قياسي تعلم كل حيل الخروج على القانون للحصول على النقود، يحميه من الموت أو السجن ذلك الاستعداد الخاص الذي يجعل القطط تقفز من ارتفاع شاهق دون أن تصاب بسوء.. وفي ذلك اليوم، لم يدر بذهن رجل الشرطة أنه حيال شاهد مأجور كان وقت وقوع الحديث يجلس وسط زوبعة من الدخان في مقهى حقير بجوار مدمن مفلس. ولو دار ذلك الخاطر بذهنه لضيق الخناق على الشاهد، ولسأله عن شكل الغلام القتيل وطول قامته ولون ملابسه، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وسار كل شيء في مجراه العادي، وخرجت الإجابة من فمه بطريقة طبيعية-نتيجة التمرس- مؤكدة أن السائق لم يخطئ وأن الغلام هو الذي برز فجأة أمام السيارة من أحد المنحنيات الجانبية. ومرت ساعة... وانتهى سيل الأسئلة. وعندما راح يوقع على الأوراق لم يكن يشعر بالذنب بعد أن تبلدت مشاعره إلى حد أنه وجد الجرأة على الابتسام. وانتهى كل شيء، وغادر الغرفة ووجهه خال من أي تعبير، وهو يذكر الآن جيدا أنه أغلق الباب خلفه، وقد لا يكون لإغلاق الباب معنى محدد، إلا أنه فعلها حتى لا يستمع أحد إلى الحديث الهامس الذي دار بينه وبين الرجال الأربعة الذين كانوا في انتظاره، والذي لم يكن يعرف منهم سوى الرجل صاحب الوجه الحاد... ولا يدري الآن لماذا ذكره وجه هذا الرجل بأجزاء اللحم التي يبيعها القصابون والتي لا تصلح إلا طعاما للقطط والكلاب. وهو يذكر أيضا تلك المشادة الحادة بينه وبينهم عندما سلموه خمسين جنيها..كان عذرهم الوحيد الذي يسوقونه على الدوام هو أنه لم يخسر شيئا بإدلائه ببضعة أسطر تنجي السائق من ظلام السجن، بيد أنهم كانوا مخطئين، لقد كان من المحتم عليه أن يحصل على مبلغ يزيد على الجنيهات الخمسين، فأسعار المخدر ترتفع بشكل جنوني، ومطالب أسرته الصغيرة لا تنتهي، ولا مصدر آخر للرزق. كانت تلك هي الخطوط العريضة لأحداث اليوم، وإن كانت ثمة سطور بيضاء تفصل بين الحوادث، فقد جاءت الجارة العجوز وملأتها بمداد حزين، جعله يشعر بأنه يسقط في قاع هوة سحيقة، انتشرت فيها صرخات طفل لم يتجاوز الخامسة وهو يسلم الروح مضرجا في دمائه. وببطء قادته قدماه من شارع إلى شارع، وصورة طفله تملأ الفراغ حوله. وعلى الجسر توقف وأخرج ما تبقى في جيبه من نقود، لا شك أنها كانت ستسأله عن مصدرها، تري أين هي الآن..لعلها تجلس دون فهم محدقة في ملابس وحيدها الذي داهمته سيارة مجنونة رحل بعدها إلى وديان الصمت.. كم كان فرحه عندما سمع بكاءه لأول مرة..لقد طاف بجميع أقاربه وأصدقائه وأخبرهم مهللا بمقدمه.. قال: لقد رزقت بغلام جميل.. قالها بحرارة وافتخار يوجبها الموقف. وبوجه جامد خال من أي تعبير أفلت النقود من بين أصابعه ثم صعد إلى سور الكوبري، ودون أن ينظر تحته ألقى بنفسه، وجرفه التيار وهو يتقلب حول نفسه متجها إلى القاع الذي انحدر إليه في حياته ومماته. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(2)بتاريخ(1414هـ)