إشراقة

ما زلت أبحث عنها في وجوه البنات، ألتفت كلما لمحت هيأتها وهي عابرة بجواري، أبحث عن العينين الضيقتين الحادتين الدامعتين، والأنف المستقيم الشامخ شموخ حياتها الآتية. أبحث عنها في الجامعة.. في الأسواق..وربما في المحلات العربية التي ما زالت تعلوها مسحة فقر وفردية حملتها معها من بلادنا في الشرق. أبحث عنها .. لا أجدها.. ما زلنا نحاول الاتصال بها في رقمها الهاتفي الذي أعطتنا إياه- أنا والبنات المسلمات في الجامعة- فلا يجيب على الهاتف أحد. ربما أخطأت هي في إملائنا أحد الأرقام، أو أخطأنا جميعا في سماع أحدها...لكني لا أجدها. وندي... أحسست حين رأيتها للمرة الأولى- والأخيرة- باهتمامها بموضوع المحاضرة. كانت تجلس إلى جوار زميل لها- وربما صديق. قلت لنفسي: لعلها تجادل الأخ الداعية فيما يطرح من أفكار رغبة في الجدل والرفض لا أكثر، كعادة كثير من قومنا، يجادلون ويرفضون دون هدف وراء هذا الجدل، أو استنتاج يمكن الوصول إليه بعد ذلك الرفض. ثم لمحت الجالس بجوارها ينصرف بعد ساعة من المحاضرة، وظلت هي تستمع، فتأكد لدي ما أحسست به. ولم يكن الأخ الداعية بالذي يمل من حديثه، حتى من الذين لا يجيدون فهم الإنجليزية، فقراءته العربية السليمة للقرآن تجذب انتباه المستمع رغم لكنته الأمريكية، وروح الدعابة التي تسري في حديثه بين الحين والآخر تنشط الذهن، وملبسه المتواضع ووجه الأسمر العابد المضيء يذكر بوجه بلال الصحابي رضي الله عنه. كان موضوع المحاضرة التي نظمها اتحاد الطلبة المسلمين في الجامعة المرأة المسلمة في القرآن وعندما قرأ الداعية هذا العنوان اعترض عليه قائلا: إن التي في القرآن ليست المرأة المسلمة فقط. وإن القرآن لا يخاطبها وحدها بل يخاطب كل امرأة مسلمة كانت أم غير مسلمة، فكانت تلك الالتفاتة أول هدف أصابه في قلوب الحاضرين. ثم استمر في عرض أفكاره حتى وصل إلى قضية تعدد الزوجات في الإسلام، وتساءل: لماذا يعترض غير المسلمين على ذلك ويتخذونها ثغرة ينفذون منها للإسلام بدعوى حرية المرأة وحقوقها؟ ذلك خير أم تعدد العشيقات مع وجود الزوجة الواحدة كما هو واقع في مجتمعات الغرب؟؟ إن الله الذي خلق نفوس الرجال علم أن منهم من يرغب في أكثر من امرأة فعجل تحقيق هذه الرغبة بصورة مشروعة نظيفة تحفظ كيان المجتمع من الانهيار الذي تعاني منه المجتمعات الغربية. ???? وكنت ألمح وندي بين الحين والآخر، فأراها مصغية للحديث، مقاطعة بالسؤال بين الحين والآخر. وحين انتهت المحاضرة رأيتها والأخ الداعية قد انتحيا جانبا، ومرت حوالي ربع الساعة أو يزيد، انشغل فيها الحضور بالأحاديث الجانبية، ثم فؤجئ الجميع بالداعية يقف ويعلن في لحظة مهيبة أن أختا جديدة قد انضمت لعداد المسلمين ثم لقنها الشهادتين بالعربية ثم بالإنجليزية. ووقفنا جميعا بعدها لثوان صامتين، غارقين في الفرحة المفاجئة، فقطع علينا الداعية صمتنا بابتسامة وادعة، وإشارة متسائلة بيده: هيا ..ماذا تنتظرون؟ فاندفعت أقرب الأخوات إلى وندي تعانقها وتهنئها بالعودة من الرحلة البعيدة، ثم تلتها الأخريات، واحتضنتها.. بكل شوق الإسلام إلى دماء جديدة تغرس مجدا جديدا، في أرض جديدة، وكأنما سكب العناق مشاعري في قلبها، فأخذتها عبرة بللت عينيها ثم قالت: كفى.. إنني أكاد أبكي. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(5)بتاريخ(1415هـ)