الباب .. الذي لا يغلق

وقف سالم حائرا.. ودموع الليل تتساقط على جبهته العريضة، فتخفف حرارة جسده التي ارتفعت إلى درجة لم يعد يعرف معها: هل يذهب لما تريد نفسه الجائعة، أو يعود ويكبح جماحها الثائرة؟ ولكن الهدوء الذي سيطر على أرجاء المكان يقلل من احتمال العودة، والتبريرات تقلل العقبات. والتساؤلات العديدة التي قفزت إلى ذهنه حين هم بالذهاب إليها حيث لا يفصله عنها إلا خطوة أو خطوتان، ويصير معها هي بكل ما فيها من جاذبية وحزن وصدق، لا يدري هل هو من أجله أومن أجلها.. فكثيرا ما حدثته عن نفسها التي باعها أبوها إلى زوجها الثري صاحب النفوذ القوي، لم يفكر بعمرها ومناسبته لعمره، ولكنه فكر بعقل الجائع وروح الخائف، فقد عاشت كل حياتها معه خادمة، لم تشعر لحظة بحقها كاملا لها شخصيتها أو وجودها في حياته..وماذا سيعود عليك يا سالم، ودارت الأفكار دورتها عليه مرة أخرى، ربما تريد أن تواجه زوجها بكل ما فيه وبه.. وقد أدخلك بيته وأتمنك على حقه وجيرته.. مم تخاف يا سالم؟... من نفسك أن تتمادى ولا تجد ما يسد رمقك، فقد كان الحديث صريحا... أم تخاف منها أن تدفعك للمزيد، وربما تطلب منك الزواج.. ومن يدريك أنك أول شخص.. ربما أحبتني أنا دون غيري.. لا تعط نفسك فرصة لتراها عن قرب.. وصل بك أن لا تتحرى الحرام.. وتقدم له المسوغات- ماذا ستقول لربك؟ ربما هذا إلهام ومراجعة- يحاسبك الله عليه- أنت الذي كان يضرب بك المثل في الأمانة والتقوى، تخون الجار الجنب؟! وكأن بابه مقتطع من بابك.. ماذا بدلك؟!.. ربما الجامعة والاختلاط، وتلك الحياة الفاجرة، والشعارات الجوفاء، والعقول الفارغة، وأولئك الفاشلون الذين يبحثون عما يسد الفراغ الشاسع داخلهم، كنت واحدا منهم بلا مقدمات، ولولا عناية الله ورحمته ما أراك البرهان وعدت لتنقذ نفسك قبل فوات الأوان، يوم رأيت أحد رفقاء الفراغ، يغض البصر ويبتعد عن الحفلات والرحلات.. دفعني الفضول لأرى ماذا دهاه ولشد ما أدهشني.. إنه يتحدث عن الخير ويدعونني إليه.. ما هذا القلب الذي تحول من الأنانية البغيضة وحب الذات إلى كل ذلك العطاء والإيثار والحب.. وبحثت في كلامه الهادئ المؤثر، كانت تلك العلامات الأولى عند عودتي.. ولكن الآن ماذا دهاك يا سالم وقد تاب الله عليك من فتيات الجامعة، وهن الباحثات عن صوت عال يملأ آذانهن بالضجيج، لكي يسمعن النصائح من الآباء. ويصب في آذانهن دعاوي التحرر والانسلاخ حتى يصرن نساء ورجالا في آن واحد.. الآن أنت وجها لوجه مع الحياة الحقيقية، بدون جلبة أو صوت أو مواجهات.. وماذا ستفعل لو رآك أحد الناس خارجا من بيتها.. وقد عرف الجميع وجودها بمفردها وفي هذا الوقت المتأخر.. وقتها لن تقوم لك قائمة.. وربما ستهرب من البلدة كلها.. ولطاردك زوجها في كل مكان، حتى يظفر بك.. وحتما سيلحق العار بأهلك.. وربما خرجوا من المنطقة.. وستطلق المرأة.. وتفقد كل شيء وسيطردها أبوها الذي يعيش على ما تراه مع أخواتها.. ما الذي انحدر بك إلى هذا الوادي السحيق، وقد أحاطت به الجبال السوداء من كل الجهات.. أعدمت القيم داخلك! تاهت الرموز التي كانت نبراسا للنفوس تهتدي وتقتدي بها حتى في أصعب الأوقات...يوم كان الأمل كل ما يعيشون عليه. وصنعوا تاريخا أسود.. وقد بدلوه بالتاريخ الناصع البياض فاختلط الحابل بالنابل..وبدلوا السجلات وجعلونا نعيش في زمان غير الزمان، وقد أزالت كل المعالم وحطموا النوافذ.. وفتحوا الأبواب على مصاريعها..من سيوقف السيل، ومن للصغار وقد كنت صغيرا وبصيص من ضوء يتحرك بعيدا ولكنه نافذ..وصاحب الهيئة ليس بغريب، والإحساس لا يختلف عن السابق... جلباب أبيض يتحرك حتى اقترب ونطق بالسلام.. إنه الشخص الذي جاءني في الجامعة، شعاع النور يلحق به... الباب المقابل يفتح بهدوء، أذان الفجر يعلو لا أحد يسمعه حتى الأذان صمت.. كما كممت الأفواه.. ومساحة من الفراغ المضيء.. تسحب كل الظلام الذي عاش فيه سالم عمره كله.. وكأنه يفتح عينيه قبلا ولم ير إلا ظلاما دائما. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(24)بتاريخ(1420هـ)