في المرآة - قصة قصيرة

التقطت عيناه بضع شعيرات كثلج كانون، تحسس الشعيرات فذابت في سواد الرأس ولم يعد لها وجود، واصل التحديق في المرآة ثم ابتسم، هل يعني اختفاء الشعيرات البيضاء أنه لم يعد لها وجود؟ كلا بالطبع ستعود غدا وبعد غد وفي جعبتها عشرات الشعيرات بل مئات، استيقظ في أعماقه حس مفاجئ بعد سنوات عمره. كان قد ودع الثلاثينيات قبل عامين، وضع أقدامه دون أن يدري على الدرجات الأولى من الثالثة والأربعين، أحس كأنما كان يسرق الزمن أو يسرقه الزمن، حاول الفرار من هذه الحقيقة الفولاذية فلم يفلح، نهض من مكانه وأحضر شهادة الميلاد وحدق بها فلم يجد أي منفذ للنجاة، بدت أرقامها واضحة كأحرف الإعلانات، تخيل الأحرف وكأنها تتحداه، أو كأنها تقول له بلسان غير ذي عوج، كم أربعون بقيت؟! وهنا فتح منفذ من منافذ النجاة، وهتف في أعماقه هاتف، من قال إن العمر يحسب بالأعوام والسنين، ألم يعش جده لأمه حتى جاوز المائة؟ ألم يذهب صديقه رضوان إلى لقاء ربه في عشرينات عمره، وقد صارع المرض حتى صرعه المرض؟ ولماذا يذهب بعيدا: ألم تحطم سيارة مسرعة جسد ابن جيرانهم سعيد العام الماضي، وكان جده لأبيه من بين مودعيه الوداع الأخير؟ ثم لماذا يبتعد أكثر؟ ألم تداهم الحمى ابن أخته قبل أيام فقضت عليه في شهره السادس؟ فالعمر إذن لا علاقة له بالسنين، وإن كانت تمضي دون توقف، فتحفر الأخاديد في الوجه وتسكب الوهن في العظام والمفاصل، وتصبغ بلون الثلج شعيرات كانت من قبل سوداء. عاد إلى المرآة من جديد. حاول العثور على الشعيرات البيضاء فلم يجدها، سره ذلك، ولكنه وجد نفسه مشدودا إلى المرآة، بدت أمامه إطارا لعالم جديد.. هاتان العينان اللتان تطالعانه على صفحة المرآة هل هما عيناه؟ هذا الوجه المحتقن بالخوف والأمل المكلل بمشروعات أخاديد زمنية واضحة هل هو وجهه؟ هذا الانحسار الطفيف لشعره الغزير عن الجبهة هل هو بداية لتصحر يعصف بالشعر كله؟ازداد تحديقا في المرآة فشاهد خطوطا ضاربة في جذور الفك، تمتد لتتصل مباشرة بأعلى الجبهة أحيانا، وتعرج أحيانا أخرى لتعبر من خلال تلال صغيرة رابضة تحت الأجفان، هل رافقته هذه الأشياء لأربعين عاما أو تزيد؟ وهل تحول عمره كله إلى سجل زمني مصهور في هذه الأشياء التي يراها؟ حاصرته الأخيلة والحقائق في آن واحد فانتبه مدافعا عن عقله. لماذا تفعل به المرآة هكذا؟ هل كان غريبا عنها؟... إنه ينظر فيها كل يوم، يصفف شعره يضع رابطة عنقه، يتأكد من لمعان أسنانه، ينظر فيها كلما لبس جديدا أو خرج لموعد مهم، فلماذا فعلت به المرآة اليوم كل هذا؟ هل هي الشعيرات البيضاء الجبانة؟ هل الطفل ذو الأشهر الستة الذي ثكلته أخته قبل أيام؟ هل هي تلك الغربة المكتشفة بينه وبين وجهه ذي الخطوط المرسومة بأصابع الزمن؟ لا يدري، كل ما يدريه أن شيئا ما قد حدث خلال لقائه هذا الأخير مع المرآة، وأن ذلك الشيء قد تحدث بدون لسان، وأبلغه رسالة لم تكتب بالقلم، وماذا بعد؟ ما جدوى وجوده وقد انقضت الأعوام الأربعون؟ انقضت وهو في غربة مطلقة عن الحقيقة وهو في غفلة أكيدة عن موت يطرق باب طفل في شهره السادس.. ويبتعد عن شيخ جاوز المائة. أية عبرة حملتها إليه تلك الشعيرات البيضاء؟ وأية انتباهة فجرتها في أعماقه أخاديد الوجه وتعاريجه، فالشعيرات البيضاء سوف تزداد عددا وبياضا، وخطوط الوجه وتعاريجه سوف تزداد عمقا واتساعا وهذه المرآة الحكيمة سوف تزداد شفافية وصدقا. أحس كأنما كان غريبا عن مرآته فأتلف معها، وكأنما كان جاهلا بسجله الزمني فقرأه ككتاب مفتوح، وكأنما كان بعيدا عن بؤرة الحقائق منها فهو يحث الخطى نحوها.. وتزاحمت في خياله الأسئلة: كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟ وإلى أين؟ ضاقت به الحجرة فتركها.. احتواه الشارع واختلط بالمارة تأمل وجوههم، استمع إلى وقع خطاهم وذبذبات أصواتهم.. أحس كأنه قريب منهم.. بل خيل إليه أنه يستمع إلى نبض قلوبهم. رقت مشاعره حتى أحس وكأنما روحه قد استيقظت من سبات عميق.. هكذا وكأنه يرى الأشياء والناس لأول مرة. كان يبتسم للمارة، يحيي بعضهم دون أن يعرفه من قبل، لاحظ أن بعضهم ينظر إليه باستغراب وكأنه مجنون لم يغضب، بل ازداد حبا لكل الأشياء والناس..وحين وجد نفسه قريبا من بيت شقيقته الثكلى طرق بابها ليخفف عنها مصابها الأليم، فتح الباب عن وجه صغير بريء..داعب الخال رأس ابن أخته الحليق وهو يقول: - أين أمك يا وهبي؟ قال وهبي وهو يتشبث بسترة خاله ويسير معه إلى الداخل: - في حجرة نومها يا خالي. طرق باب الحجرة فلم يرد أحد، داهم الخوف قلبه فلم يطق الانتظار، فتح الباب فشاهد أم وهبي تجلس على سجادة وترفع كفيها إلى السماء، حدق فيها فأحس أنه أمام مرآة جديدة صادقة تتحدث بكل لغات الأرض.. وتسرد كل حقائق الوجود. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي )عدد(24)بتاريخ(1420هـ)