إمام عظيم

(مجلس الخليفة المتوكل، وعنده خواص أصحابه) (يدخل الحاجب يعقوب قوصرة) المتوكل: ما وراءك يا يعقوب؟ يعقوب: هذا أحمد بن أبي دؤاد يا أمير المؤمنين، قد جاءوا به محمولا إليك كما أمرت. المتوكل: فليدخلوا بالمخذول هنا. يعقوب: سمعا يا أمير المؤمنين.. (يخرج يعقوب ثم يعود بابن أبي دؤاد، يحمله اثنان من الشرطة، فتتوجه الأبصار إليه) المتوكل: ضعوه على الأرض، وأسندوه إلى ذلك الجدار(يوضع ابن أبي دؤاد على الأرض، ويسند إلى جدار في أحد الأركان، وهو مريض بالفالج لا يستطيع الحركة). ابن أبي دؤاد: السلام عليك يا أمير المؤمنين. المتوكل: وعلى غيرك السلام هيه يا ابن أبي دؤاد، هل لك أن تحدثنا عما فعلتموه بأحمد بن حنبل؟ ابن أبي دؤاد: ما أخال أمير المؤمنين يجهل ذلك. المتوكل: أحقا جيء له بالجلادين فضربوه حتى غشي عليه؟ ابن أبي دؤاد: نعم يا أمير المؤمنين. المتوكل: هل تعتقد أنه كان يستحق كل هذا العذاب؟ ابن أبي دؤاد: ..............؟ المتوكل: ماذا كانت جريرته؟ ابن أبي دؤاد: أبى يا أمير المؤمنين أن يقول: إن القرآن مخلوق. المتوكل: أكنت ترى أنه يكيد للدين ويبغي به شرا؟ ابن أبي دؤاد: لا يا أمير المؤمنين، ولكنه أخطأ. المتوكل: وكيف علمت أنه أخطأ؟ أأنت أعلم بالدين وأفقه للسنة من هذا الإمام الكبير؟ ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، ما كنت أنا وحدي في هذه السبيل، لقد كنت مع أبيك المعتصم أمير المؤمنين في ذلك. المتوكل: أفكان المعتصم أفقه وأعلم من أحمد بن حنبل؟ ابن أبي دؤاد: وكان على ذلك أيضا عمك المأمون أمير المؤمنين. المتوكل: ويلك، ألأن المأمون قد شدا شيئا من فلسفة يونان، يكون أعلم بكتابه الله وسنة رسوله من ابن حنبل؟ ابن أبي دؤاد: كانت سياسة الدولة يا أمير المؤمنين تقتضي ذلك. المتوكل: أي دولة تعني؟ دولتنا أم دولة خصومنا العلويين؟ ابن أبي دؤاد: بل دولتكم يا آل عباس. المتوكل: أفلم يكن المأمون من الساعين في هدمها؟ ألم يرد أن ينزعها من أيدينا ليجعلها لآل أبي طالب؟ ابن أبي دؤاد: إنك تعلم يا أمير المؤمنين ألا يد لي في تلك السياسة. المتوكل: فإني لن أعاقبك عليها، ولكني سأعاقبك على ما ظلمت هذه الإمام الجليل. وعرضته للعذاب، طوال حكم المأمون عمي، والمعتصم أبي والواثق أخي. ابن أبي دؤاد: إنه كان يتشيع لآل علي يا أمير المؤمنين. المتوكل: فد فتشوا داره فلم يجدوا فيها أحدا من أعدائنا العلويين، كما ادعيت عليه زورا منك وبهتانا. ابن أبي دؤاد: لعله كان قد سربه وهربه يا أمير المؤمنين. المتوكل: كذبت أيها المجرم الأثيم.. والله لا ستصفين ما بقي من أموالك حتى لا يبقى عندك دانق واحد. ابن أبي دؤاد: حنانيك يا أمير المؤمنين، أبق شيئا لأهلي وأولادي. أما كفى ما أخذت من مالي حتى أصابني هذا الفالج، عافاك الله. المتوكل: تلك عقوبة الله، وبقي أن تذوق عقوبتي. ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين ليس من العدل أن تعاقبني وحدي فيما حل بابن حنبل. المتوكل: ويلك، أأنبش قبور شركائك: المأمون والمعتصم والواثق؟ أهذا ما تريد مني يا عدو الله. ابن أبي دؤاد: معاذ الله يا أمير المؤمنين، ولكني أطمع في عفوك أنت كما أطمع لهم في عفو الله وغفرانه (يدخل يعقوب) يعقوب: يا أمير المؤمنين، هذا أحمد بن حنبل قد وصل. المتوكل: أهلا به، فليدخل. (يخرج يعقوب) المتوكل: أتقبل يا هذا أن أحكم أحمد بن حنبل في أمرك ليقضي عليك بما يشاء؟ ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين أنت أرحم وأعدل من أن تكل أمري إلى خصمي. المتوكل: ألا تريد أن تحتكم إليه. ابن أبي دؤاد: إليك وحدك أحتكم يا أمير المؤمنين. المتوكل: فابق حيث أنت ولا تنطق بكلمة حتى يؤذن لك. (يدخل الإمام أحمد بن حنبل فيقوم له الخليفة وجلساؤه إعظاما، ثم يجلسه المتوكل إلى جانبه) المتوكل: مرحبا بك يا أبا عبد الله، أنت عندنا على الرحب والسعة. أحمد: أصلحك الله يا أمير المؤمنين. هأنذا حضرت اليوم إلى قصرك امتثالا لأمرك. فماذا يريد أمير المؤمنين مني؟ المتوكل: عندي لك عتب يا أبا عبد الله، أريد أن أسمعك إياه: أحمد: فيم العتب يا أمير المؤمنين؟ المتوكل: أنت تكره أن تغشى مجلسي يا أبا عبد الله؟ أحمد: إنما أكره أن أجيئك لغير حاجة يا أمير المؤمنين؛ حتى لا أشغلك عن ذوي الحاجات من رعيتك. المتوكل: بل كرهت الرحلة إلينا من بغداد. أحمد: إنما أشفقت من مشقة الرحلة يا أمير المؤمنين، فإني كما ترى شيخ هرم. المتوكل: قبحا لهم، لقد بلغني أنك تكره لقائي وتتنصل، وإلا لأعفيتك من هذه المشقة. أحمد: هذا يا أمير المؤمنين مثل الذي بلغك عن داري، أني أؤوي فيها أحد أعدائك. المتوكل: أجل..سامحني يا أبا عبد الله إذ أمرت بتفتيش دارك. أحمد: قد سامحتك يا أمير المؤمنين من قبل. المتوكل: والهدية التي أرسلتها إليك بلغني أنك استنكفت منها ففرقتها على الفقراء والمساكين. أحمد: يا أمير المؤمنين، لقد وجدت هؤلاء أحوج مني إليها فتصدقت بها عليهم، وما قصدت والله- أن أغضبك. المتوكل: فقد أغضبني ذلك يا أبا عبد الله منك. أحمد : (ممازحا) ماذا تركت لصالح ابني يا أمير المؤمنين؟ لقد كان له عذره حين غضب. أما أنت فلا عذر لك. المتوكل: (يبتسم ضاحكا) صدقت يا أبا عبد الله. والله لا أسمع فيك مقالة واش بعد اليوم. أحمد: حياك الله يا أمير المؤمنين وبياك. المتوكل: إنك سامحتني فيما كان مني في حقك. فهل لك أن تسامح المعتصم أبي وتجعله في حل؟ أحمد: قد فعلت يا أمير المؤمنين. المتوكل: (فرحا) أحقا يا أبا عبد الله ما بقي في قلبك من شيء عليه؟ أحمد: ولا على أحد ممن آذاني.. قد جعلتهم جميعا في حل. المتوكل: حتى هذا المجرم اللعين. (يشير إلى ابن أبي دؤاد). أحمد: (ينظر إلى حيث أشار المتوكل) ومن يكون هذا يا أمير المؤمنين. المتوكل: ألا تذكره؟ هذا عدوك أحمد بن أبي دؤاد. أحمد : ما هو لي بعدو يا أمير المؤمنين. لقد سامحته وعفوت عنه. المتوكل: يعقوب. يعقوب: لبيك يا أمير المؤمنين. المتوكل : احملوا هذا المخذول إلى أهله. ابن أبي دؤاد: (يحمله الشرطيان ليخرجا به) يا أمير المؤمنين حكم أبا عبد الله في أمري. المتوكل: هيهات قد رفضت ذلك من قبل، فليس لك غير حكمي أنا. ابن أبي دؤاد: حنانيك يا أمير المؤمنين، اجعل حكمي إليه. (يخرجانه وهو يصيح ويستغيث). أحمد: ما خطبه يا أمير المؤمنين... ما خطب ابن أبي دؤاد. المتوكل: كنت أردت أن أنتقم لك منه، ولكنك عفوت فأمرتهم أن يعيدوه إلى أهله. أحمد: أكرمك الله يا أمير المؤمنين إن الله تبارك وتعالى يقول: فمن عفا وأصلح فأجره على الله. المتوكل: هذا الذي عذبك يا أبا عبد الله واضطهدك. هذا الذي دفع أبي وعمي إلى عذابك. أحمد: (يرفع يديه مبتهلا) اللهم اغفر لابن أبي دؤاد. اللهم تب عليه. المتوكل: وتدعو له يا أبا عبد الله؟ تدعو للعصاة المجرمين؟ أحمد: (ماضيا في دعائه) اللهم إن قبلت من عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فداء، فاجعلني لهم فداء. (يستولي على الحاضرين خشوع عميق، وتندى عيونهم بالدمع، ويسود بينهم الصمت برهة). المتوكل: (والدمع في عينيه) أبا عبد الله لا غنى لنا عن صحبتك. أفلا تقيم عندنا في (سر من من رأى) إلى ما شاء الله؟ أحمد: لو أعفيتني يا أمير المؤمنين، وأذنت لي في العودة إلى داري ببغداد كنت لك من الشاكرين. المتوكل: أترغب عن جواري يا أبا عبد الله، أم تشكو من تقصير في حقك. أحمد: سأصدقك القول يا أمير المؤمنين، إني لا أحب لك أن تكون أقسى علي من المعتصم أبيك. المتوكل: كيف يا أبا عبد الله؟ أحمد : سامني أبوك فتنة الدين أمس، وأنت اليوم تسومني فتنة الدنيا بما تغدق علي وعلى أهلي من عطاياك. وقد نجوت من الأولى يا أمير المؤمنين، وأخشى ألا أنجو من الثانية. المتوكل: قد فهمت قصدك يا أبا عبد الله ولك عندنا ما تحب. أحمد: (فرحا) أبقاك الله يا أمير المؤمنين، ووفقك لكل خير. المتوكل: عظني يا أبا عبد الله قبل أن ترحل عني... عظني موعظة أحفظها عنك ما حييت. أحمد: يا عبد الله... السفر قريب، والطريق طويل والزاد قليل. المتوكل: (يتمتم باكيا) يا عبد الله... السفر قريب، والطريق طويل.. والزاد قليل.. (ستار). نشر في مجلة (الأدب الإسلامي) عدد(11)بتاريخ(1417هـ)