من قدر الله إلى قدر الله

في سرغ على مقربة من تبوك. الوقت: أول الليل بعد صلاة العشاء... (يرى عمر جالسا أمام خبائه وعنده يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة والعباس بن عبد المطلب وعثمان وطلحة وسعيد بن زيد وعبد الله بن عباس وأبو طلحة الأنصاري). شرحبيل: أجل يا أمير المؤمنين كنا أهل الشام نرثي لأهل الجزيرة من عام الرمادة فإذا نحن ننكب بطاعون عمواس. عمر: (يدعو مبتهلا) اللهم كما رفعت عنا المحل فارفع عنا هذا الداء. اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي عمر. أبو طلحة: (يدخل) أبشر يا أمير المؤمنين..فقد رجع رسولك ومعه أبو عبيدة. عمر: اللهم لك الحمد.. الآن اطمأن قلبي.(يدخل أبو عبيدة). أبو عبيدة: السلام عليك يا أمير المؤمنين. عمر: (يقوم له فيعانقه) وعليك السلام ورحمة الله، بأبي وأنت وأمي، أين أدركك الرسول يا أبا عبيدة؟ أبو عبيدة: على مرحلة بعد تبوك يا أمير المؤمنين؟ عمر: الحمد لله. أبو عبيدة: ما هذا الذي بلغني يا أمير المؤمنين؟ أحقا إنك اعتزمت النكوص عن الشام؟ عمر: نعم. لا أريد أقدمهم عليه ولي مندوحة عنه. أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله يا عمر؟ عمر: (يبهت قليلا) ماذا تقول يا أبا عبيدة؟ أبو عبيدة: أقول أفرارا من قدر الله؟ عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله؟ أبوعبيدة: لو غيرك قالها يا ابن الخطاب. إن الله تبارك وتعالى يقول: (قل لنا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا). عمر: وإن الله تبارك وتعالى يقول: ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة). أبو عبيدة: إنك لتعلم يا أمير المؤمنين أن الآية إنما نزلت في ترك الجهاد والإمساك عن النفقة فيه. عمر: أجل نهانا الله عن ترك الجهاد لأن ذلك يفضي إلى التهلكة. فأحرى أن ينهانا عن الإلقاء بأيدينا إلى التهلكة ذاتها. أبو عبيدة: الشام عندك هلكة؟ عمر: الطاعون بالشام. والطاعون هلكة. أبو عبيدة : إين إذا اليقين بالله يا عمر؟ عمر: ويحك يا أبا عبيدة من تمام اليقين بالله أن تعرف سنته في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، هذا الوباء مثله كمثل النار، ليس لنا أن نضع أصابعنا فيها ونقول: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا). أبو عبيدة: كلا يا عمر أن النار تحرق لا محالة فأما الوباء فيصيب بعض الناس دون بعض وإنما مثله كمثل القتال في سبيل الله يتعرض فيه المجاهدون للقتل، فمنهم من يقتل ومنهم من يسلم من القتل. عمر: كلا يا أبا عبيدة القتال فريضة كتبها الله علينا لننصر الحق على الباطل وننقذ المستضعفين من ظلم ذوي الظلم، ولتكون كلمة الله هي العليا ( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما). أبو عبيدة: أرأيت يا عمر لو فر رجل من الزحف. أليس من يفر من قدر الله إلى قدر الله. عمر: بلى. أبو عبيدة: فهل يحل له ذلك. عمر: كلا. أبو عبيدة: فعلام قلت آنفا نفر من قدر الله إلى قدر الله؟ عمر: ويحك يا أبا عبيدة ليس الفرار من الوباء كالفرار من الزحف. الفرار من الزحف إثم عظيم، لأنه فرار مما فرضه الله عليك وليس لأنه فرار من قدر الله فإن قدر الله لا مفر منه البتة إلا إلى قدره، أما الفرار من الوباء فمن التقوى التي أمرنا بها الله. أبو عبيدة: أنى لك يا أمير المؤمنين أن ذلك من التقوى التي أمرنا بها الله؟ أعندك بها حجة من كتاب أو من سنة؟ عمر: لا يا أبا عبيدة ما عندي بها حجة من كتاب أو من سنة اللهم إلا الفهم ومعرفة الأشباه والأمثال وقياس الأمور.. ولقد ظللت منذ الظهر أسال أصحاب رسول الله من المهاجرين الأولين ثم من الأنصار فلم أجد عندهم شيئا، واختلفوا في رأيهم أيما اختلاف فرجعت إلى مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فوجدتهم على رأي واحد أن ارجعوا إلى المدينة فصدعت به. أبو عبيدة: لا غرو يا عمر أن يكون هذا رأي مسلمة الفتح من الطلقاء وأبناء الطلقاء الذي لا هم لهم إلا الدنيا فكيف بالله تأخذ به؟ عمر: إن فضل الرأي في الرأي ذاته وليس في قائله أو صاحبه. الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى يجدها. عباس: ما إخال أبا عبيدة الآن اقتنع برأيك يا أمير المؤمنين. عمر: أحقا يا أبا عبيدة؟ أبو عبيدة: لا والله يا أمير المؤمنين. هذا الفرار من قدر الله إلى قدر الله ما زال في نفسي شيء منه. عمر: يا أبا عبيدة كيف بالله أبين ذلك؟ دعني أضرب لك مثلا: أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. أبو عبيدة: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن شأننا مختلف، إنك قد خرجت بنا إلى العدوة الجدبة ابتغاء مرضاة الله وإرادة ما عنده، فلا ينبغي أن يصدك عنها مشقة تلقاها أو بلاء عرض لك. عمر: يا أبا عبيدة قد شرح الله صدري لهذا الرأي فلن أعدل عنه أبدا إلا إن جئتنا ببرهان من كتاب أو سنة. أبو عبيدة: يا عمر أنت أمير المؤمنين فاصدع بما شرح الله له صدرك فإني وإن لم أكن على رأيك لسامع لك مطيع. عمر: جزاك الله خيرا يا أمين هذه الأمة. يا عبد الله بن عباس. ابن عباس: لبيك يا أمير المؤمنين. عمر: اخرج فناد في الناس: بأننا مرتحلون غداة غد فليصبحوا جميعا على ظهر. ابن عباس: سمعا يا أمير المؤمنين(يخرج) عمر: انصرفوا إلى رحالكم وانتظر أنت يا أبا عبيدة (ينصرف الجميع ما خلا أبا عبيدة). أبو عبيدة: ائذن لي يا أمير المؤمنين استأنف مسيري الليلة. عمر: ماذا ترى يا أبا عبيدة لو رجعت معنا إلى المدينة وأرسلنا من يجيء بأهلك وعيالك من حمص؟ أبو عبيدة : وعملي يا أمير المؤمنين بالشام؟ عمر: سأعفيك منه وأوليه لغيرك. أبو عبيدة: أسخطت مني شيئا يا أمير المؤمنين؟ عمر: معاذ الله، ولكن عرضت لي حاجة إليك بالمدينة. أبو عبيدة: هل لك يا أمير المؤمنين أن تذكرها لي؟ عمر: إني قد عزمت أن أزور العراق، وأطوف بمدنه، وأتفقد أحوال الناس هنا، فأريد أن أستخلفك على المدينة. أبو عبيدة: إنك تستخلف علي بن أبي طالب في كل مرة. عمر: أريد أن استصحب عليا معي في هذه الرحلة. أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين لا تداورني فإني قد عرفت حاجتك. عمر: أجبني إذن إليها يا أبا عبيدة جزاك الله صالحة. أبو عبيدة: إني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم فلست أريد فراقهم. عمر: لكني أنا يا أبا عبيدة لا أريد فراقك. أبو عبيدة: ويحك يا ابن الخطاب قد علمت أننا لسنا عليها بمخلدين. عمر: إني أخشى أن يأتيني قضاء الله وأنت يا أبا عبيدة غير موجود. أبو عبيدة: وأنا والله يا أمير المؤمنين لا أرغب أن أبقى بعدك. إن البقاء بعدك لمحنة ما لي بها يدان. عمر: بلى يا أبا عبيدة إنك لجدير بها، فأنت أمين هذه الأمة. أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أردت آنفا أن تفر من قضاء الله وتريد الآن أن تسبقه. عمر: أن أسبق قضاء الله يا أبا عبيدة فإلى قضاء الله. أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين نشدتك بالله إلا ما حللتني من عزمتك وتركتني في جندي فلست أرى فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه.. عمر: كما تحب يا أبا عبيدة. أبو عبيدة: جزاك الله من أخ صالح. لا تنسني من صالح دعائك يا عمر. عمر: (تدمع عيناه) وأنت يا أخي لا تنسني كذلك عند ربك (يخرج أبو عبيدة). عمر: عند ربك! أقلت عند ربك؟ اللهم لا تجعل لسان يسبق قضاء. يا ويح أبي عبيدة.. أحقا إني لن أرى وجهه ولن أسمع صوته إلا يوم يجمعنا الحشر (يدخل ابن عباس). عمر: ابن عباس ناديت في الناس؟ ابن عباس: كما أمرت يا أمير المؤمنين. عمر: فماذا قالوا؟ ابن عباس: رضي الكثير يا أمير المؤمنين وتذمر القليل. (يدخل عبد الرحمن بن عوف). عمر: (فرحا) ادخل يا أبا محمد. ابن عوف: (يدخل) السلام عليك يا أمير المؤمنين. عمر: وعليك السلام ورحمة الله أين كنت يا ابن عوف؟ ابن عوف: تخلفت يا أمير المؤمنين بعض الطريق عرجت على معارف لي من عهد الجاهلية فأخروني عندهم. عمر: ألم يبلغك ما حدث؟ ابن عوف: بلى يا أمير المؤمنين وعندي من هذا الذي اختلفتم فيه علم. عمر: عندك منه علم؟هات. ابن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه. عمر: الله أكبر. قد أيدنا الله بالبرهان الواضح. أدركوا أبا عبيدة وأرسلوا وراءه من يعود به. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي) عدد(4)بتاريخ(1415هـ)