العبور

مركب في عرض البحر حيث يبدو إلى اليسار جانب من الشاطئ يقف جعفر بن أبي طالب على حافة المركب يحيط به حشد من المهاجرين... جعفر: الحمد لله، ها نحن أولاء قد ابتعدنا عنهم، ولا أعتقد أن بمقدورهم الآن اللحاق بنا، لقد كادت أيديهم تصل إلينا قبل أن نضع أقدامنا على المركب..ماذا يريدون؟ فو الله ليمضين هذا الدين بأذرعنا إلى حيث أراد له الله. ابن مظعون: إنما هي محنة وسنتجاوزها إن شاء الله. جعفر: حقبة، ونرجع إليهم لكي نصفي معهم الحساب.. ابن مظعون: أترى رسول الله سيلحق بنا؟ جعفر: (مبتسما) فمن يكون للدعوة إذن؟ من يقف قبالة الوثنية لكي يلوي عنقها؟ ابن مظعون: ولكني أخشى عليه وعلى أصحابه الذين بقوا معه هناك. جعفر: (وهو ينظر صوب الشاطئ البعيد) لا تخش شيئا يا أخي، فلينصرن الله دينه، أترى رحلتنا عبر هذا البحر؟ إنها رحلة كرحلتنا هذه.. عبور عبر المخاطر والعواصف والأنواء، صوب الأمن والسلامة.. انظر....فها هي الطيور تحوم في البعيد، ومعنى هذا أننا أوشكنا على إلقاء مراسينا عند الضفاف الموعودة، إن دعوتنا ستعبر المخاطر هي الأخرى، وسوف تلقي مراسيها يوما! ابن مظعون: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.. ولكن قل يا جعفر.. أتراه سيفتح لنا صدره؟ جعفر: بكل تأكيد، ما دام رسول الله قد اختاره ملجأ، فمعنى هذا أنه سيلقانا بالترحاب. ابن مظعون: ولكنني أخشى أن يؤثروا عليه، ويغيروا صدره علينا. جعفر: من؟ ابن مظعون: بطانته، وربما .. من يدري؟ قد ترسل قريش من يدفعه دفعا إلى رفضنا.. جعفر: هون عليك يا ابن مظعون، فإني سأعرف يومها كيف أريه الحق حقا والباطل باطلا، وسأقنعه بقبولنا.. ابن مظعون: ما لنا وللهواجس والاحتمالات.. إن مهمتنا الآن هي أن نعبر، وليفعل الله بعدها ما يشاء.. جعفر (هامسا) (سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون)(مناديا) يا عبد الله، ركز بصرك في الأفق، فإن لمحت خطا الشاطئ فكبر ثلاثا فإني أحس أننا قد أوشكنا على الوصول. عبد الله: سمعا يا ابن عم رسول الله.. (تنفجر على حين غفلة جلبة عنيفة، وترتفع الأصوات الصارخة، ويهرع حشد من الرجال إلى وسط المركب، ونلمح من بينهم عبد الله بن سعد أبي سرح وهو ينادي) ابن أبي سرح: ارموا الكلاليب والحبال على مراكبهم، واعبروا إليهم.. وقاتلوهم هناك فو الله ما أريد أن يسمع أمير المؤمنين بأننا قد هزمنا في أول لقاء بحري حاسم مع العدو (يرفع صوته أكثر) انتصروا.. أو موتوا! (يهرع المقاتلون إلى رمي الحبال والكلاليب ذات اليمين وذات الشمال وترتفع نداءات الله أكبر وهم يعبرون إلى مراكب البيزنطيين ويشتبكون معهم بالخناجر والأيدي والعصي والسيوف). ابن أبي سرح :( صارخا) يا أبناء الذين عبروا إلى الحبشة لكي يحموا دينهم من الفتنة وأنفسهم من الفناء، قاتلوا عن دينكم ومصيركم، فو الله لتمضين كلمة الله بأذرعكم إلى هدفها.. أحد المقاتلين: (وهو ينزف دما) لقد عبرت والله يا ابن أبي سرح مع أبي يوم الهجرة إلى الحبشة فسمعت جعفرا رضي الله عنه يقول قولتك هذه.. انظر إلى البحر أصبح ثبجه دما!! ابن أبي سرح: وسيقولها من بعدي آخرون.. ولكن بدون هذا الذي تراه يخفق مع زبد البحر، بدون الأيدي التي تقاتل، والقلوب التي تتفجر باليقين، والعقول التي تعي جيدا كيف تصنع المصير العظيم، فلن يكون شيء... (يصرخ) يا أبناء صحابة رسول الله.. شدوا. المقاتل:( وهو يلفظ أنفاسه على حافة المركب) ليس أحب إلي من الجنة التي تلوح لي إ لا أن يحييني الله مرة أخرى لكي أواصل القتال...يا بن أبي سرح أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له إن أمة تتمنى الحياة لكي تجابه بها الموت، سوف تعبر بحار العالم كلها تغرس راياتها الخضراء في الموانئ والتخوم. طارق بن زياد: (يتحلق حوله في المركب حشد من المقاتلين) بلغني أيها المجاهدون أن لو ذريق قد أعد لنا جيشا كبيرا، وما نحن الآن إلا قلة، ولكنني مصمم على أن أعبر إليه وأقاتله، فما هي إلا العزيمة منكم، والإيمان في قلوبكم حتى نرده على أدباره.. وما أريد أن ألقي بكم في التهلكة، ولكنني علمت من تنازع القوم، وضعفهم، وطمعهم في الدنيا وتهالكهم عليها ما لا يغني عنهم جمعهم الكثير، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله! أحد المقاتلين: اعبر إليهم، فو الله لا نقول لك إلا ما قاله سعد بن معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، امض بنا يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف عنك رجل واحد. مقاتل آخر: (صارخا) اعبر يا ابن زياد، فما هي والله سوى إحدى اثنتين النصر أو الجنة. عبد الرحمن بن بشر: والله يا طارق لكأني بأبي قبل سنوات يحدثني عن ذات الصواري، ويقول: كان أعداء الله أكثر منا بكثير، وكانت سفنهم تملأ البحر، وكنا نحن قلة من المقاتلين في قلة من المراكب، لم نجرب بعد قتال البحر، لكن إذن أمير المؤمنين لنا باقتحامه أشعل في قلوبنا نار الشوق إلى المجازفة وكنا نعرف جيدا أن أبي سرح سينتزع النصر بكلمة الله.. طارق بن زياد: سننزل هذه المرة إلى أرضهم ونقاتلهم فيها، وستجدون أنفسكم بين بحر يمتد وراءكم وعدو ينتشر أمامكم، فليس لكم-ثمة- إلا الصدق والصبر. أحد المقاتلين: ارمنا بهم، وستعرف كيف غضب الله، ولمن تكون الغلبة؟ طارق بن زياد: سوف تمضي أيام قبل أن نلقي مراسينا على الشاطئ وأخشى أن تنطفئ الجمرة في قلوبكم، فبوقدتها التي تكوي فتحتم نصف العالم.. وبها ستفتحون نصفه الآخر. أحد المقاتلين: لن تكون مياه البحر قادرة على إطفائها.. إن كتاب الله في قلوبنا، وإن زيته الدري يعرف كيف يصنع الجمر المتوقد ويحميه من الخمود والانطفاء. طارق بن زياد: يا جند الله أبشروا فو الله ما هي إلا أيام قلائل وتعبرون إلى ما تشتهون النصر أو الجنة! مسلمة بن عبد الملك: ( على مركبه، قبالة القسطنطينية مع حشد من قادته وجنده): أرايتم أيها المقاتلون؟ هاهي الشهور تكر، والأسابيع تنصرم، وليس ثمة ما يوحي بالنصر المرتجى.. إن العبور إليهم، واقتحام أسوارهم لهو المستحيل، وأنتم ترون بأعينكم قوة تحصينهم، وشدة منعتهم، وهم يأكلون ونحن نزداد جوعا، ويتدفؤون ونحن نعاني الزمهرير.. وها هو الوباء يحاصرنا فيزيدنا ضعفا على ضعفنا.. أحد القادة: إنها التهلكة إذن، ولن يرضى الله سبحانه أن نلقي بأيدينا إليها.. مسلمة: ولكن الخليفة يصر على مواصلة الحصار.. القائد: وهل يدري الخليفة ما ينزل بنا؟ مسلمة: بعثت إليه برسالة أفصل له فيها القول وإني منتظر الجواب.. الرسول: (يقترب من مسلمة ويمد يده بالكتاب) جئت أنعي إليكم الخليفة السابق سليمان رحمه الله وأحمل كتاب خلفه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وهو أول ما كتبه بعد تلقيه البيعة! مسلمة: (يقرأ الكتاب بين الفرح والحزن ثم يلتفت إلى قادته): ها قد جاءكم الفرج.. أمير المؤمنين يأمر بالانسحاب فورا، قبل أن يأتي الفناء على من تبقى منا، ويقول إنها التهلكة التي حذرنا منها كتاب الله، وإن دم المسلمين يجب أن يدخر للجولات القادمة وألا يذهب هدرا.. القادة والجند: الحمد لله.. الحمد لله.. مسلمة: (مخاطبا نفسه): والله إنه ليس الخوف من الموت، ولكنها الحكمة التي تقضي بالانسحاب، وسوف يأتي اليوم الذي نعبر فيه إليهم.. يقينا إنه سيأتي.. أتراني يكتب لي شرف الإسهام فيه؟ (تدمع عيناه).. أسد بن الفرات: ( وهو يمد بصره شمالا من مقدمة المركب الذي يقله وحشد كبير من الجند): لن يطول بنا السرى، فما هي إلا بضع ساعات ونكون عند شطآن صقلية بإذن الله! أحد المقاتلين: بارك الله فيك أيها القائد الفقيه، لقد عرف الأمير ابن الأغلب كيف يختار قائده للحملة الكبيرة،إنه يريد أن يبعث روح الجهاد مرة أخرى. متطوع أندلسي: عندما سمعت وإخواني أن الفقيه المعروف أسد بن الفرات هو الذي سيقود حملة الفتح قلنا إنها الفرصة التي كنا ننتظرها من زمن بعيد.. لنتطوعن جهادا في سبيل الله وابتغاء لمرضاته.. متطوع مغربي: لقد رأيت بعيني طلبة العلم وهم يتدفقون على فاس من القرى والأرياف يسألون عن الطريق الذي يصلهم إلى تونس والوجهة التي ينبغي لهم أن يسلكوها..وانطلقنا جميعا لكي نلحق بالحملة قبل أن تفوتنا الفرصة لقد عاد والله زمن الجهاد! أسد بن الفرات: ( وهو يلتفت إلى الجند) سنرمي بثقلنا هناك، وسوف نلقى مقاومة كبيرة في أرض وعرة، كثيرة الشعاب، لا نكاد نعرف شيئا، ولكنه الشوق إلى إحدى الحسنين سيمكننا منهم بإذن الله.. لقد عبر طارق بن زياد البحر إلى الأندلس في قلة من أصحابه، ولكنه انتصر على عدوه الذي يفوقه عددا وعدة، وركز رايات الإسلام هناك وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. أحد القادة: لقد تصور العدو إذ صد الغافقي عن اختراق فرنسا ورد مسلمة بن عبد الملك عن القسطنطينية أنه أوصد ألأبواب أمام الضربات الإسلامية إلى الأبد.. ها نحن أيها الفقيه الجليل نخترق خطوطه من القلب، ومن يدري؟ فلعل أوروبا ستشهد في يوم ما تدفق جند الإسلام إلى أراضيها.. أسد بن الفرات: (مبتسما وهو يربت على كتفه): قل إن شاء الله! محمد الفاتح: (على المركب نفسه تحيط به حاشيته وقادته وتبدو بعض أسوار القسطنطينية واستحكاماتها): أيها المسلمون، هذا يومكم الذي انتظرتموه طويلا..أربعة قرون وأنتم تحلمون به.. إن أرواح أبي أيوب الأنصاري، ومسلمة بن عبد الملك، وكل الجنود المجهولين الذين استشهدوا وهم يحاولون العبور إلى حصون أعداء الله.. يطلون عليكم من فوق، يشدون على أيديكم، ويدعون لكم بالنصر المبين 0يرفع يديه إلى السماء ويجأر بالدعاء) اللهم فنصرك الذي وعدت.. اللهم فنصرك الذي وعدت... جموع القادة الجند: آمين..آمين.. محمد الفاتح: أسابيع طوال ونحن نشدد قبضتنا عليهم ونضيق فيهم الخناق، وها قد آن الأوان لإنزال الضربة الحاسمة..غدا فجرا ستنطلق مراكبنا- على بركة الله- لكي تشن الهجوم الأخير وتقتحم الأسوار.. المقدم عبد العال حلمي: (على المركب نفسه يحيط به عدد من الضباط والجند): وكونوا حذرين فإن العدو إذا اكتشف أمرنا، أحبط عملنا، إنها الفرصة التي كنا نحلم بها منذ سبع سنين، والتاريخ لا يمنح فرصة بسهولة. أحد الضباط: دقائق معدودات وسوف تخبرنا أيها المقدم. ضابط آخر: في لحظات التوتر يجثم الزمن على صدر الإنسان بكل ثقله وجبروته، فلا تكون الدقيقة دقيقة بل ساعة، وتصير الساعة أياما وشهورا. المقدم عبد العال: على رسلك، فإنه لم يتبق ثمة ما يفصلنا عن المصير. الضابط: ليس النصر وحده ما أتحرق شوقا إليه، ولكنه الانتقام.. وأصارحك القول فإن مشاعر قرون طويلة من الكراهية لأعداء الله، تتركز الآن، هذه اللحظة، هنا (يشير إلى قلبه).. المقدم عبد العال: سننطلق بهذا الاتجاه.. أترون ذلك الجرف المطل على الجهة الأخرى من البحر؟ سنرسوا هناك، لكن ما نلبث أن نتسلل إلى أقرب موقع للعدو ونسعى لتدميره.. الضباط والجنود: رهن إشارتك أيها المقدم.. المقدم: (ينظر إلى ساعته) فلنتوكل على الله، لقد حلت ساعة الصفر. ( ينطلق المركب، وما نلبث بعد قليل أن نسمع صوت انفجارات متتالية وتراشق بالأسلحة، ونداءات الله أكبر.. الله أكبر.. تشق أجواء الفضاء.. وتتداخل الرؤية فيبدو خط بارليف في الأفق البعيد، ثم يتغير شيئا لكي يظهر كما لو كان جانبا من حصون القسطنطينية، وحينا ثالثا يتكشف ساحل الأندلس، أو قبرص، أو الحبشة أو صقلية.. ثم ما يلبث أن ينكشف الظلام ويبدو الفجر مضيا والمركب يستقر على الساحل وينزل منه ستة مقاتلين يحمل كل منهم بندقيته الرشاشة متجها صوب أحد مواقع العدو..) جعفر بن أبي طالب: ( وهو يندفع إلى خط بارليف) لحظات وتكف الملاحقة، إذا تمكنا من سحق رأس الأفعى فلن نخشى لدغتها أبدا.. ابن أبي سرح: (مندفعا بالاتجاه نفسه حاملا بندقيته الرشاشة صارخا بالجنود من ورائه) سلطوا مياه خراطيمكم عليه ذا الساتر وافتحوا الطريق للمدرعات.. طارق بن زياد: ( وهو يتوقف لحظات على الساحل موجها كلماته للجند المتدفقين) البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر (ثم ما يلبث أن يطلق النار وهو يتقدم إلى خط بارليف). مسلمة بن عبد الملك: (صارخا) ها قد عدنا يا أعداء الله، وسوف ندك حصونكم على رؤوسكم، ولن تحميكم استحكاماتكم من بأسنا.. محمد الفاتح: ( وهو يهرع إلى أحد المدافع ويرمي به مواقع العدو) تقدموا.. أسد بن الفرات: ( وهو يقفز إلى البر ومن ورائه حشود المتطوعين) إذا وضعنا أقدامنا على الأرض، فلن تستطيع قوة في العالم أن تردنا إلى البحر مرة أخرى (يصرخ) يا عون الله! محمد الفاتح: مستمر ( على دك مواقع العدو بمدفعه الثقيل) تقدموا، فإن وعد الله آت.. المقدم عبد العال حلمي: (يتسلق الساتر الترابي ومن روائه جنده وضباطه، وإذ يوشكون على بلوغ أحد المواقع يمطرونه بالقنابل اليدوية والرصاص يخرج ثلاثة ضباط إسرائيليين وعدد من الجند مستسلمين.. وخلال دقائق يتدفق الإسرائيليون من مخابئهم معلنين الاستسلام، ويهرع ضابط شاب برتبة ملازم إلى أحد المرتفعات فينزل علما إسرائيليا ويمزقه، بينما يتقدم آخر لكي يرفع العلم المصري) الله أكبر( فيردد من ورائه الجنود والضباط) الله أكبر.. الملازم: ها قد عدنا يا أرضنا الطيبة.. المقدم عبد العال: فلنمض على بركة الله نحررها شبرا..شبرا.. (تتداخل الرؤية مرة أخرى فنلمح حينا المهاجرين الأولين وهو يبتعدون على الشاطئ موغلين في أرض الحبشة ونلمح حينا آخر جند سعد بن أبي سرح وهم يندفعون في قبرص، وطارق بن زياد وهو ينطلق بفرسانه جنوبي أسبانيا، وأسد بن الفرات ومتطوعيه وهم يجوسون في غابات صقلية متوغلين.. كما نلمح محمد الفاتح وهو يجتاز وكبار قادته إحدى بوابات القسطنطينية ويخر ساجدا لله. وبين لحظة وأخرى ترتفع تكبيرات الجند المصريين وهم يتدفقون على طول الساحل صوب الساتر الذي دمرت جوانب منه، وفتحت الثغرات في جوانب أخرى.. وتصك الأسماع نداءات المقاتلين جميعا، عبر العصور، وهم يصرخون: الله أكبر.. الله أكبر... ونلمح جعفر بين أبي طالب يهرع إلى حيث يندفع المقدم عبد العال حلمي فيشد على يديه ويعانقه). جعفر: مبارك عليكم نصركم أيها الأخ المقدم. المقدم:( بتأثر) منذ قرون بعيدة أعطيتم الإشارة أيها الصحابي الجليل! جعفر: لسنا وحدنا الذين أشعلنا الضوء على أية حال.. المقدم: بكل تأكيد.. لقد جاء من بعدكم رجال كرام كسعد بن أبي سرح وطارق بن زياد ومسلمة بن عبد الملك وأسد بن الفرات ومحمد الفاتح، ولكنكم كنتم أول من حاول العبور من أجل تثبيت كلمة الله ورفع رايات الإسلام في مسالك العالم وشعابه.. جعفر:( مبتسما) من عجب أيها الأخ المقدم أننا عبرنا مغربين وها أنتم اليوم تعبرون مشرقين، والبحر هو البحر! المقدم: سيان أيها الصحابي الجليل، إنما على المسلم أن يمتلك إرادة العبور وبدونها لن تشتعل مصابيح الهدى في ظلمات العالم، لن يكون ثمة فجر لليلة البهيم.. جعفر: (وهو ينظر إلى المدى البعيد) صدقت، فإنما هي إرادة العبور، أتدري أيها الأخ المقدم؟ لقد جاء الإسلام لكي يتحرك صوب كل مكان من هذا العالم.. يتجاز بحاره وجباله وصحاريه من أجل أن يصل إلى الإنسان.. منذ لحظات الفجر الأولى، وعبر الساعات الفاصلة التي سبقت معركة بدر وقف أحد أخوتنا الكرام وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرف: امض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو اجتزت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف عنك رجل واحد! المقدم: رضي الله عنك يا ابن معاذ لقد أجبت رسول الله بما كان يتمناه! جعفر: ومن يومها والمسلمون يجتازون الموانع ويخوضون البحار تلبية لنداء سعد بن معاذ.. المقدم: (مبتسما) سنكون عند حسن ظنكم أيها الصحابي الجليل! جعفر: أتريد الحق؟ لقد اهتزت ثقتنا بعض الشيء، ولكنكم الآن ترجعونها إلى اليقين، فحمدا لله.. المقدم: (بتأثر) كل الذي نرجوه هو أن تتاح لنا الفرصة كاملة للتعبير عن إيماننا العميق.. إيماننا الذي هو امتداد لأيمانكم المتفرد فيض من الينبوع الذي فجرته كلمات الله.. جعفر: (بتأثر هو الآخر) إنني أدرك جدا مخاوفك، أحزان جيل بأكمله من المسلمين، فلندع الله ألا تحرموا فرصة التحقق النادرة هذه! المقدم: ولندع الله ألا نطعن من الوراء! جعفر: (مشيرا بيده إلى إحدى التحصينات اليهودية البعيدة) هل تدري يا عبد العال؟ لكأني عائد اللحظة من الحبشة لكي ألتحق بجند رسول الله عليه السلام وهم يقتحمون حصون خيبر.. لكأني أسمع صيحة رسول الله (الله أكبر، هلكت خيبر، إنا إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين)! المقدم: ( متفكرا) التاريخ يعيد نفسه! جعفر: ماذا؟! المقدم: لا شيء، إنما هي عبارة اعتدنا أن نتداولها دون أن نخبرها جيدا.. الآن تتكشف لي معانيها على مداها..كانت لحظة مؤثرة أيها الصحابي الجليل.. ابن عمك يحتضنك بعد بضع عشرة سنة من الفراق.. يقبلك وهو يبكي! جعفر: وسمعته يردد (والله لا أدري بم أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟) لقد كانت تلك أسعد لحظة في حياتي، وقلت في نفسي متى أجازيك يا رسول الله متى؟ لقد منحتني الفرح الذي لا يزول بعد سنين طويلة من التغرب، والحزن والانقطاع.. فمتى أجازيك؟ المقدم: (بتأثر) ولقد جازيته بعد سنة واحدة، وهرعت إلى التخوم لكي تعبر وإخوانك، بالدعوة، حدود جزيرة العرب إلى الشمال، هذه المرة، فتناوشتك وإياهم سيوف أعداء الله.. أتدري أيها الصحابي الجليل، لقد انطبعت صورتك المتفردة في أذهان المسلمين عبر أربعة عشر قرنا، وستظل وأنت تحمل الراية بيمناك، تتقدم بها، فتقطعها هي الأخرى، فتتشبث بها بما تبقى من ساعديك، حتى تشوط في رماح القوم.. لك الله أيها الصحابي الطيار إلى الجنة. . لك الله (يبكي).. جعفر: ما اعتدنا أن نتحدث عن أنفسنا يا عبد العال، ولكن اسمح لي أن أقول بأن تعشقنا للشهادة هو الذي مكننا من العبور.. هو الذي جعلنا نجتاز بوابات الزمان والمكان.. ونحكم الدنيا!! المقدم: (مشيرا إلى وحدة من القوات المصرية وهي تتوغل في سيناء بمواجهة النيران الكثيفة لإحدى تحصينات العدو) ها هم أولاء يا بن عم رسول الله، يركضون إلى الموت مرة أخرى! جعفر: (وهو يربت على كتف المقدم) وستنتصرون بإذن الله! المقدم: آه لو منحونا هذه الفرصة منذ عشر سنين أو عشرين.. كانوا دائما يرغبون في أن تتملكنا محبة الدنيا وكراهية الموت. جعفر: يعرفونها جيدا، فلم يمنحوكموها.. إنها السر.. والكلمة...والمفتاح.. المقدم: وأخشى ما أخشاه أيها الصحابي الجليل. جعفر: (مقاطعا) هيا عبد العال لكي نلحق بتلك الوحدة المتقدمة، فننال معها شرف مقاتلة العدو مرة أخرى.. إن الكلام لا يجدي نفعا.. لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفعل ولا نتكلم، أن تكون أفعالنا هي الكلمات! المقدم: (وهو يضع أمشاط الرصاص في رشاشه) صدقت يا بن عم رسول الله.. (ينطلق في قلب الصحراء وهو يهتف: الله أكبر.. الله أكبر.. فيرد عليه الجند المتقدمون: الله أكبر.. الله أكبر... وهم يقذفون التحصين اليهودي بوابل من النار، ولا غالب إلا الله). نشر في مجلة (الأدب الإسلامي) عدد(3)بتاريخ(1415هـ)