ذرية بعضها من بعض (ولادة أحمد بن حنبل)

شخصيات المسرحية: 1 حنبل: جد أحمد لأبيه وسيد في قومه، في الستين من عمره. 2 محمد: والد أحمد بن حنبل، شاب في الثلاثين من عمره. 3 عبد الملك بن سوادة: شيخ وقور، ذو شخصية قوية، في السبعين من عمره. 4 زوجة محمد: امرأة في الخامسة والعشرين، أم أحمد بن حنبل. 5 - ثمامة: عالم بني شيبان، في الستين من عمره. المشهد الأول حنبل: أراك على شيء من الذهول يا ولدي، ما هكذا يكون الشاب الذي بنى بعروسه منذ شهر. محمد: لا شيء مما ذكرت يا أبي، سوى أنني أفكر في أمر. حنبل: ما هو؟ سلمت لأبيك. محمد: بنو شيبان عدد الحصى، لهم في الجاهلية منعة، ولهم في الإسلام بلاء مجيد، (فالمثنى بن حارثة الشيباني) قائدهم في الجهاد، ورائدهم إلى الجنة، وأنا... حنبل: أنت!! ماذا؟ محمد: إن الزواج!! يحول بيني وبين الجهاد يا أبت، لقد نذرت نفسي للشهادة. حنبل: حسن، حسن، بارك الله فيك، أنت فرع من دوحة، ولكن أتظن يا ولدي أن الجهاد في سبيل الله سبحانه، موقوف على الحرب؟ محمد: فيها مشقة، والثواب على قدر المشقة. حنبل: بناء البيت، وإنجاب النسل الصالح، وصلة الرحم، وبر الوالدين جهاد يا بني و... ( طرق على الباب) حنبل: ادخل. خادم: (يدخل) سيدي، مولاي عبد الملك بن سوادة قادم. حنبل: استقبل جدك استقبالا يليق بأخلاقك وشمائل شريف من شيبان يا محمد. محمد: جدي يحمل في ثوبه أرج الخمائل، وفي طلعته بهرة الصباح، أهلا سيدي أهلا. عبد الملك: ( من بعيد ثم مقتربا) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حنبل: وعليكم من الله السلام، والرحمة والبركات، تفضل، على الرحب والسعة، أهلا وسهلا. عبد الملك: ما لمحمد ذاهلا؟ وقد عهدته عريسا، يتفجر نضرة وتوثبا؟ حنبل: قلت له ذلك من قبل، وسألته، فهل تدري يا سيدي بماذا أجاب؟ عبد الملك: وهل الأمر يحتاج إلى أخذ ورد يا محمد؟ محمد: سيدي، أرادني الوالد على أن أبني شيبانية أختارها، والطاعة تقتضي الامتثال، لكنني ها أنذا منذ أكثر من شهر متخلف عن الالتحاق بالغزاة المجاهدين، من رفاقي، وإخوان الروح. (عبد الملك يضحك ضحكة خفيفة) عبد الملك، يا لك ن بر تقي، ومجاهد وفي!! هذا فحسب؟ محمد : ألا يكفي هذا مثيرا للبلبال يا مولاي؟ عبد الملك : وماذا قلت له ياحنبل؟ حنبل: قلت له إن الجهاد في سبيل الله ليس وقفا على الحرب. محمد: لكن هناك شيئا آخر يؤرقني، ويصرف همي. عبد الملك: أفصح، وأرح نفسك، وأرحنا. محمد: حلم روادني في النوم، فملأ قلبي شوقا غامضا، حلوا، سحريا،على قلق وتوزع بال. حنبل: هات لنرى أحلامك من يقظتك. عبد الملك: أبوك أشهر مفسري الأحلام يا ولدي، فلماذا تكتم؟ محمد : أخشى إن أنا أفصحت عنه، أن تطير حلاوته مع الريح. حنبل: إذن هو شيء جميل، فأشركنا في سماعه، حفظك الله يا محمد. محمد: استيقظت ليلتنا عند منتصف الليل، وفي قلبي حنين، وبجوارحي خفة كأنني محمول على ريش، فخرجت منسربا برفق، خشية أن تفيق زوجتي، وقضيت وقتا غير يسير أذرع خطاي في فناء الدار. عبد الملك: بادرة حسنة. حنبل: ثم. محمد : ثم تولاني سانح من نعاس، كأنه النسمة بين الأوراق، فعدت واتكأت في زاوية الحجرة كيلا أزعج سكني، فغفوت، وكان ذلك قبيل الفجر بقليل، ورأيت كأن جداول خضراء سندسية تخرج من فمين ثم تشيع في الهواء والفضاء، وهي بين أن تكون هواء أو ماء، وأحسست لذلك بنشوة لم أعهدها في حياتي، ورأيت كأن الدنيا أصبحت مغمورة بتلك الجداول، وغدت طيورا بالغة الجمال والرونق، تحط فوق أمواجها ثم تطير. عبد الملك: هاه!!!ما هذا ياولدي؟ ما هذا؟ حنبل: يا للبشرى!!! ثم تكتم مثل هذه الرؤيا السعيدة يا محمد!!! محمد: ماذا تعني يا أبتاه؟ حنبل: عالم بدين الله، يملأ الدنيا علما يخرج من صلبك، ويكون واحدا من كبار شراح كتاب الله، فمه فمك محشو نعمة. عبد الملك: الجداول الخضراء آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي الشريفة، تخرج من فمك لتفيض على العالم، إنه كلمة نقية فردوسية تقولها يا بني. محمد : الحمد لله، وشكرا له على نعمائه، يا لفرحي ما أعظمه!! حنبل: ألا تزال نادما على الزواج أيها الغازي المجاهد؟ عبد الملك: ألا ترضيك بغداد، لتزج بنفسك في الأصقاع البعيدة وأنت لا تزال طريا وعريسا؟ حنبل: ستعود كتيبتك بد أن تنجب ولدا، فتكسب الجهاد مرتين. محمد : أرجو أن يتم الله نعمته علينا، وأن تتحقق الأحلام. المشهد الثاني (محمد، حنبل، زوجة محمد، خادم) حنبل: أراني على خير ما يرام صبيحتنا هذه. محمد : أرجو أن تكون أيام سيدي الوالد، صبيحات موصولة المباهج. الزوجة : لا أدري والله كيف أن الدنيا لا تسعني من الفرح، وأنا أكاد أضع الولد الأول وعادة النساء أن يخشين الولادة الأولى؟ حنبل: أسأل الله لك ولنا يا بنيتي، أن يجعل ما فيه الخير والسلامة زيتا مضيا في بيتنا ولو لم تمسسه نار. محمد: بغداد باب يمن وإقبال يا أبت. حنبل: على أنني أحببت البصرة، وكنت واليا على (سرخس) من خراسان، فذقت حلاوة الدنيا، وعرضني الميل إلى بني العباس ودعوتهم إلى سخط الأمويين وتعذيبهم، إلا أن بغداد أنستني كل بلاء مر، وأرجو من الله سبحانه أن يسبغ آلاءه وأن يجعل المولود القادم بشيرا بالخير. محمد: ذاك ما أتوسل إلى الباري سبحانه بشأنه، وأضرع إليه أن يقر به عيني أبوي. حنبل: سم يا محمد. محمد: سم أنت يا أبي. حنبل : للأم الحق في التسمية. الزوجة: في فمي حلاوة اسم (أحمد) إن كان ذكرا، وبشرى أو يسرى إذا.. محمد: مقاطعا كان أنثى. حنبل: كلاهما خير.. ماذا تقول يا محمد؟ محمد : ولد واسمه أحمد. حنبل : وإن كان أنثى؟ الزوجة: يحج سيدي العم على نفقتي إن كانت أنثى. حنبل: وتحجين أنت ومحمد على نفقتي إن كان ولدا. محمد: هذا جيد، والله يضاعف لمن يشاء، وحدي من بينكما الرابح. حنبل: ولكما بستان الأسرة في الرصافة. محمد : ها .. هذا كثير يا والدي، كثير. حنبل : المولود الآتي جواب آفاق، عابر فلوات، فقد حلمت به أمه في (مرو) وعرج على الكوفة، وحل في البصرة، واستقر ببغداد. محمد: ومع ذلك... حنبل: ماذا؟! الزوجة : ومع ذلك فقد أمسكت زوجة محمد بن حنبل الشيباني جنينها، فلم تطرح. حنبل : الشيبانيات ولودات، يمسكن الأجنة، ويخصبن اللبن. محمد : من قال يا أبت؟ إذا كنت في ربيعة فكاثر بشيبان،وفاخر بشيبان، وحارب بشبيان؟ حنبل: قول شاع يا ولدي كالهواء والشعاع، أظن أنه للخليفة عمر، عندما أشار مع الأمير سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهما- أن يبني البصرة، فنزلتها جموع شيبان، وذلك بعد بلائها تحت إمرة المثنى في حرب الفرس، قبل إمرة سعد. محمد : وفيها بنى ذوونا مسجد مازن. حنبل: أولئك آبائي فجئني بمثلهم.. إذا جمعتنا يا جرير المجامع. محمد : زهو وخيلاء في الإسلام يا أبت؟!! حنبل: زهو وفرح ببناء مساجد يذكر فيها اسم الله. الزوجة: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. حنبل: بارك الله لبيتي بمن فيه، له الحمد والشكر على كل حال. المشهد الثالث (حنبل، ثمامة، جارية، خادم، محمد، زوار مهنئون) جارية: سيدي، سيدي محمد. محمد : ماذا وراءك؟ بشري جارية : سيدتي وضعت. حنبل ومحمد معا: وضعت!!!! الحمد لله. حنبل : ما .. ماذا؟ هل..ط محمد : الحمد لله، صرت أبا. حنبل : زاد قدرك في عيني أبيك، أترى؟ محمد : أصبحنا نتحدث عن أمور العائلة، وبذا خفت صوت الحديث عن الجهاد. حنبل: الآن، يستطيع القائد المجاهد أن يذهب لطيته. محمد : أذهب لأرى الطفل، هل...هو.. حنبل : إياك يا ولدي، فليس في بني شيبان من يقول ليس الذكر كالأنثى فالكل نعمة الله سبحانه. محمد: أستأذن الوالد لأطمئن على زوجتي والولد. حنبل: في رعاية الله وحفظه يا ولدي. خادم : مولاي، ثمامة قادم. حنبل: قصد أهلا، ووطئ سهلا، علامة بني شيبان، ثمامة. ثمامة: السلام على ابن العم، ومن يلوذ به. حنبل: عليك من الله سلام ورحمة، طائر يمن، وبشير سعد. محمد: (من بعيد) أبت ثم مقتربا ثمامة يا ابن العم،لا تؤاخذني، فقد شغلني المولود فلم ألق التحية. ثمامة: خير ولد لخير والد. حنبل : كيف رأيته يا محمد؟ محمد: أحمد، يا والدي، وجه كزيت المشكاة، فيها مصباح، يكاد يضيء ولو لم تسمه نار. حنبل : وأم أحمد يا محمد؟ محمد : على خير ما يرجى، وذاك من رحمة الله، والآن.. حنبل، مقاطعا: جعل الله لك في كل آن خيرا، ماذا يا بني؟ محمد : أترك لكم في البيت رجلا، وألتحق بإخواني. ثمامة: ألا تلبث أياما، والضيف قد يستوحش؟ محمد : الضيف أصبح رب البيت، وكلنا في ظل حنبل بن هلال. حنبل: رافقتك السلامة، ادن لأقبلك، لا تجعل غربتك طويلة يا ولدي. محمد : ادع لنا يا ثمامة. ثمامة : النور في قلبك، والعزيمة في دمك، ورؤية الحق بين عينيك، والله سبحانه يحوطك بالعناية. محمد : والآن أستودعكم الله ربي. الاثنان: رافقتك السلامة يا محمد. حنبل : قلت لك إنه لا يتراخى عن الجهاد. ثمامة: كان الله في عونه، قل يا ابن عم. حنبل :ماذا ، فديتك. ثمامة: أين نحن من العام؟ حنبل: السادس من ذي الحجة، في الثالثة والستين بعد المائة من هجرة رسول الأنام. ثمامة: عليه وعلى النبيين والمرسلين أزكى التحية والسلام. حنبل: وفيم سؤالك؟ ثمامة: ما عهدت شجر الرصافة يزهر كهذا العام. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي) عدد(8)بتاريخ(1416هـ)