حديث تلق النبي صلى الله عليه وسلم للوحي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فحديث هذه المقالة هو ما رواه الإمامان البخاري ومسلم (رحمهما الله تعالى) عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال:سعيد أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه. قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، قال: فاستمع له وأنصت ثم إن علينا بيانه. ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه. وجاء في رواية أخرى أنه قال: .. وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله الآية التي في: لاأقسم بيوم القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه قال: علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فإذا أنزلناه فاستمع ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه بلسانك قال فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله جل وعلا. أخي القارئ: ومن الألفاظ الغريبة التي تحتاج إلى شرح وبيان في هذا الحديث، الألفاظ الآتية: - قوله: يعالج: أي يحاول من تنزيل القرآن عليه شدة، ومنه ملاطفة المريض، أي ملاطفته بالدواء، والمعالجة الملاطفة في المراودة، وقيل: محاولة الشيء بمشقة. - وقوله: أنصت: من نصت ينصت إنصاتا، إذا سكت واستمع. أخواني القراء: وبعد أن شرحنا بعض الألفاظ الغريبة في هذا الحديث، تعالوا بنا لننظر في الفقه الدعوي الذي نستفيده منه، وهو على النحو الآتي : أولا : من أساليب الدعوة: التطبيق العملي والتمثيل بالفعل : إن في تطبيق ابن عباس رضي الله عنهما، بتحريك شفتيه كما كان رسول الله يحركهما، درسا للدعاة في أهمية هذا الأسلوب، ونقله للصورة، وتقريبه للأذهان، وزيادة البيان، يقول الإمام الكرماني (رحمه الله): وفيه أنه يستحب للمعلم أن يمثل للمتعلم بالفعل، ويريه الصورة بفعله، إذا كان فيه زيادة على بيان الوصف بالقول. أهـ وهذا الحديث يسمى بالمسلسل، لأن ابن عباس رضي الله عنهما، نقل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، بتطبيقه لمن رواه عنه، والراوي أيضا فعل كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا النوع من الأحاديث فائدته كما قال الإمام العيني (رحمه الله) اشتماله على زيادة الضبط، واتصال السند، وعدم التدليس . الفقه الثاني الذي نستفيده من هذا الحديث هو: أن من صفات الداعية الحرص على العلم النافع: إذ يظهر لنا من هذا الحديث مدى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلقي الوحي وحفظه، حتى أنه صار من شدة الحرص يقرأه مع الملك عليه السلام، إلى أن نزل قول الله سبحانه وتعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ? فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، فالله جل وعلا، بين له: أن عليه التأني وعدم العجلة في ذلك، يقول الإمام الكرماني (رحمه الله) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي، نازع جبريل عليه السلام القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ، وخوفا من أن يتفلت منه، فأمر بأن ينصت له، ملقيا إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه وحيه (إلى أن قال) كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى معا كما ترى بعض الحراص على العلم.أهـ ويقول الإمام البيضاوي (رحمه الله) عند شرحه لهذه الآيات: إن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو من أهم الأمور وأصل الدين، فكيف بها في غيره.أهـ ومن أهم العلوم التي يحصلها الداعية حفظ كتاب الله، وتلاوته، وتدبر معانيه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في ذلك حتى نزل عليه الوحي يطمئنه بجمع ذلك له. فعلى الدعاة إلى الله الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في حرصه على العلم والهدى والنور، بشرط عدم العجلة، والتأني في أخذه وتحصيله. الفقه الثالث الذي نستفيده من هذا الحديث هو: جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. إن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع عند الكل، إلا من جوز تكليف ما لايطاق، وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، فاختلفوا فيه، فذهب الأكثرون، إلى جوازه مستدلين بقول الله سبحانه وتعالى: ثم إن علينا بيانه. فلذا ينبغي على الداعية إلى الله إذا تحدث في موضوع ما أن لا يخرج عنه بالتفصيل في كل ما يرد في حديثه من موضوعات ما لم تدع الحاجة إلى ذلك. فلذا رأينا الحافظ ابن حجر (رحمه الله) أخر الحديث عن تفسير الآيات الواردة في هذا الحديث إلى مكانها الذي يناسبها، فقال: والكلام في تفسير الآيات المذكورة، أخرته إلى كتاب التفسير فهو موضعه. أ هـ الفقه الرابع الذي نستفيده من هذا الحديث هو ضمان الله سبحانه وتعالى، جمع القرآن وبيانه: ففي هذه الآيات الواردة في هذا الحديث بشارة من الله جل وعلا، لهذه الأمة بأن القرآن باق بحفظ الله سبحانه وتعالى له، وأن الله جل وعلا، قد تكفل بجمعه ومن ثم بيانه للناس، سواء ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في غيره من الأزمان، وذلك بوجود الحفاظ العلماء الدعاة إلى الله (ورثة الأنبياء) يقول الله سبحانه وتعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. إذن فينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، الحرص على تبليغ هذا القرآن، وإيصاله للناس، مع اطمئنانهم بأن الله جل وعلا، حافظ لكتابه، جامع مبين له ولو كره الكافرون. الفقه الخامس الذي نستفيده من هذا الحديث هو أهمية السنة النبوية في فهم القرآن الكريم: إن حاجة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، للسنة النبوية حاجة ماسة، فهي الشارحة للقرآن المفسرة لما أجمل منه، بها يفهم القرآن ومراد الله فيه، يقول العلامة ابن سعدي (رحمه الله) عند تفسيره لقوله تعالى: ثم إن علينا بيانه: أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه، وحفظ معانيه، وهذا أعلى ما يكون (إلى أن قال) وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما بين للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بين لهم معانيه.أهـ فلذا ينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، التصدي لمن دعا لفصل القرآن عن السنة، لأنها دعوة لهجر القرآن والبعد عن مراده ومعانيه. الفقه السادس الذي نستفيده من هذا الحديث هو:من آداب المدعوين: الاستماع والإنصات: يظهر في الحديث تنبيه على خلق له أهمية كبيرة، لطالب العلم والقارئ له، وهو حسن الاستماع والإنصات للمتحدث، يقول العلامة ابن سعدي (رحمه الله ): وفي هذه الآية لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه أدب في أخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم للعلم، قبل أن يفرغ المعلم، من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ منها، سأله عما أشكل عليه. وكذلك إذا كان في أول الكلام، ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، قبل الفراغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق وباطل، وليفهمه فهما يتمكن فيه من الكلام فيه على وجه الصواب. أ هـ. هذا والله علم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.