أدب الدعوة إلى الله

العمل على إنقاذ النفوس من وادي الغواية، والإقبال بها على مطالع السعادة: مسلك وعر لا يمر فيه على استقامة إلا من بلغ في صناعة البيان أمدا قاصيا. لا يكفي في الدعوة أن يكون في يد القائم بها حجة أو موعظة يلقيها في أي صورة شاء فإن المخاطبين يختلفون ذوقا وثقافة اختلاف الزمن والبيئة، ومن اللائق أن تصاغ دعوة كل طائفة في أدب يليق بأذواقها أو ثقافتها. الخبرة بما للطوائف من أحوال نفسية، وإلقاء الدعوة في الثوب الملائم لهذه الأحوال: موكول إلى الداعي ورسوخه في فنون البلاغة وأدب اللسان. ولا يمنعنا هذا من تذكير القارئ ببعض جمل نوردها كأمثلة للأدب الذي تخرج به الدعوة في خطاب بليغ. من أدب الدعوة: الرفق في القول، واجتناب الكلمة الجافية، فإن الخطاب اللين قد يتألف النفوس الناشزة، يدنيها من الرشد، والإصغاء إلى الحجة أو الموعظة وليست الشدة علامة على القوة أو الصلابة في الحق أو الثبات كما يتخيله البعض، ولو كان خيرا لكان أسبق الناس إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم! كيف وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه. رواه مسلم. وفي لفظ عنده عنها: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه. قال تعالى في خطاب موسى وهارون عليهما السلام: اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (سورة طه، 43)، ولقن موسى عليه السلام من القول اللين أحسن ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال تعالى: فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى (سورة النازعات آية 18)، ويندرج في سلك هذا: صرف الإنكار إلى غير معين؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في النكير على أهل بريرة (قال الحافظ في التقريب 8641: بريرة: مولاة عائشة، صحابية مشهورة)- وقد عرفهم بأعيانهم- : ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟! رواه البخاري ومسلم عن عائشة ومن هذا القبيل: قوله عليه الصلاة والسلام: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية رواه البخاري ومسلم عن عائشة. وشكا إليه صلوات الله وسلامه عليه رجل معاذ بن جبل حين كان يطيل بهم الصلاة، فاشتد غضبه، ولكنه احتفظ بعادته الجميلة، فلم يخاطب معاذا على التعيين، بل عمم في الموعظة، وقال: أيها الناس! إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة رواه البخاري ومسلم. ومن أمثلة هذا الأدب: أن يوجه الداعي الإنكار إلى نفسه، وهو يعني السامع، كقوله تعالى فيما يقصه عن رجل يدعو إلى الإيمان بالله: وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (سورة يس: 22)؛ فإذا أراد تقريع المخاطبين إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة ما لا يغني عنهم شيئا، فأراد الكلام في صورة الإنكار على نفسه؛ تلطفا في الخطاب وإظهارا للخلوص في النصيحة، حيث اختار لهم ما اختار لنفسه. ويضاهي هذا الأدب: أن يضع نفسه بمنزلة السائل المتطلب للحقيقة، ويقيم الحجة في معرض الاسترشاد، حتى تعلق بأذهان المخاطبين، قبل أن يشعروا بغرضه، فينصرفوا بقلوبهم عن الإصغاء إليه. ومثل هذا: ما فعل إبراهيم عليه السلام في محاجة قومه المشار إليهم بقوله تعالى: إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه ما تعبدون. قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون (سورة الشعراء: 73) وقال تعالى في تعليم رسوله الأكرم كيف يدعو إلى الحق: قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (سورة سبأ: 24) فإذا لم يظهر الداعي أنه على بينة من أمره، وألقى الكلام في هيأة المتردد الذي لا يتيقن أن الهدى في جانبه؛ كان كالمستعين برأي المخاطب في البحث عما هو حق ورشد، فتنحل في قلب هذا المخاطب عقدة التعصب. وربما طمع في الداعي وأخذه إلى مذهبه، فيقبل على النظر بجد حتى يمر به مغالبة الداعي على الآيات البينات، فإذا هو ينظر إلى الحق؛ فإما إيمانا بعد وإما عنادا. ومن لطف الدعوة: أن تنادي المدعو بلقبه الشريف، وتنعته بوصف شأنه أن يبعث في صاحبه على قبول الموعظة، أو الإنصاف في المجادلة. وهذا الأدب مقتبس من مثل قوله تعالى: يا أهل الكتاب، يا أيها الذين آمنوا، يا أولي الألباب، يا أولي الأبصار وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هرقل في كتاب دعوته إلى الإسلام بعظيم الروم (كما رواه البخاري رقم7، ومسلم 1773 عن ابن عباس، عن أبي سفيان) ويتأكد مثل هذا الأدب في موعظة الصغير للكبير والمرؤوس لرئيسه، ولا سيما حيث تضرب على الدولة طبائع الاستبداد. وقد يفتتح الداعي للرؤساء خطابه بكلمة: ائذن لي؛ قال أبو شريح لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير! أحدثك قولا، وروى له قوله صلى الله عليه وسلم: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما (رواه البخاري 1832، ومسلم 1354) إلخ الحديث. فقال له عمرو بن سعيد: نحن أعلم بحرمتها منك، فقال له أبو شريح: إني كنت شاهدا وكنت غائبا، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك فأنت وشأنك. يذهب بعض الناس في الإنكار على من يراه مبطلا مذهب الفظاظة في القول (وهو مذهب يتقنه كل أحد! لكن لا يسترسل معه ويستمر به إلا كل من لم يتقن آداب الشرع، وأخلاق الإسلام)، فيرميه باللعن والشتائم. وفن الشتم والهجاء مما يبذر الشقاق الذي نهينا عنه، وربما حمل المبطل على التعصب لرأيه أو هواه، وقبض عليه باليمين والشمال. والناس يعرفون أن طريقة السباب في المجادلة؛ إنما يسلكها العاجز عن إقامة الحجج الدامغة، فترى المقال الذي يحرر في سعة صدر وأدب مع المخالف يجد من القبول وشدة الأثر في نفوس القراء؛ ما لا يجده المقال الذي يخالطه السفه والحماقة (ولكن هناك تفصيل؛ فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من سألني مستفيدا حققت له، ومن سألني متعنتا نقضته كما في الدرر الكامنة:1153 لابن حجر) وكذلك ترى المستيقن أنه على حق، مطمئن الخاطر آمنا على مذهبه من صولة الباطل، فينطق من أناة وتخير للأقوال الصائبة. أما من لم يكن على بصيرة من رأيه أو عقيدته؛ فإنه ينزعج عند المجادلة، ويطيش به الجدل حتى يقذف بالسباب، ويلفظ بالكلام من قبل أن يقيم له وزنا. قد يكون حديثك مع طائفة باعوا أنفسهم بمتاع هذه الحياة واندفعوا لإغواء الأمة، والكيد لشريعتها وحياتها السياسية، بجميع ما ملكوا من صفاقة وعناد وسوء طوية، ولعل الناس يعذرونك حين تتصدى لكف بأس هؤلاء، ويجري على لسانك أو قلمك في خلال جدالهم كلمة تتهكم بعقولهم، أو تزدري آراءهم، أو تنبه على مكر انطوت عليه دعايتهم. فإنك إن تهكمت بعقول هؤلاء، أو ازدريت آراءهم؛ فإنما تضعها في مواضعها وتمس خيلاءهم بما يخفف من غلوائها. وإن رفعت الغطاء عن مكايدهم؛ فإنما تجادل قوما يجعلون مكان الصريح رمزا، ومكان الطعن غمزا، ويلبسون أقوالهم المعبرة عن آرائهم ترددا أو ريبا. نقلا من كتاب الدعوة إلى الإصلاح على ضوء الكتاب والسنة وعبر تاريخ الأمة بقلم العلامة الشيخ محمد الخضر حسين المتوفى سنة 1377هـ رحمه الله تعالى