خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف

لما اشتد إيذاء كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، بعد موت عمه أبي طالب خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف رجاء أن يؤووه ويعينوه ليبلغ رسالة ربه، فوجد ثلاثة نفر هم سادة ثقيف، وهم عبد ياليل وحبيب ومسعود بنوعمرو فعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليهم نفسه، وشكا إليهم البلاء وما انتهك منه قومه، فقال أحدهم: أنا أسرق أستار الكعبة إذا كان الله بعثك قط، وقال الآخر: أعجز الله أن يرسل غيرك! وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا، والله لئن كنت رسول الله لأنت أعظم شرفا وحقا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله لأنت أشر من أن أكلمك، وتهزؤوا به فقام عنهم النبي عليه الصلاة والسلام وطلب منهم أن يكتموا هذا الحديث ولا ينشروه، وكره عليه الصلاة والسلام أن يبلغ قومه عنه فيهيجهم ذلك على إيذائه والسخرية منه. فلم يفعلوا بل أفشوا في قومهم ما دار بينهم، وقعدوا له صفين على طريقه لما مر وجعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعها إلا رضخوهما بالحجارة، وأدموا رجليه فخلص منهم وهما تسيلان دما، فعمد إلى حائط من حوائطهم (أي بستان) واستظل بظل شجرة وهو ومكروب موجوع فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة أخوه، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما، فلما رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداسا، وهو نصراني من أهل نينوى معه عنب، فلما جاء عداس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي أرض أنت يا عداس؟ قال: من أهل نينوى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى، فقال: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال: أنا رسول الله، والله أخبرني خبر يونس. فلما أخبره خر عداس ساجدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يقبل رجليه وهما تسيلان دما. فلما أبصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا فلما أتاهما قالا له: ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه؟ قال: هذا رجل صالح، أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى، فضحكا منه وقالا لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع. هذا وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب موضع قرب مكة فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت، فإذا هو جبريل فناداني إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين (أي جبلي مكة وهما أبو قبيس والأحمر) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أسرارهم (أو قال من أصلابهم) من يعبد الله لا يشرك به شيئا. أخرجه البخاري ومسلم. وقد روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من عند أهل الطائف بعد أن آذوه واستقر عند الحائط قال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك. هذا ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يدخل مكة لم يستطع أن يدخلها بمفرده، نظرا لما كانت تغلي به من حقد عليه في ذلك الوقت. فبعث عليه الصلاة والسلام إلى الأخنس بن شريق فطلب منه أن يجيره بمكة، فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمها. فبعث إلى سهيل بن عمرو ليجيره، فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي، فبعث إلى المطعم بن عدي ليجيره فقال: نعم وأمره أن يأتيه فذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه (ستة أو سبعة) متقلدي السيوف جميعا فدخلوا المسجد، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: طف، وجلسوا في المطاف فأقبل أبو سفيان إلى المطعم فقال له: أمجير أم تابع؟ قال: لا بل مجير. قال: إذ لا تخفر. فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه، وذهب أبو سفيان إلى مجلسه. هذا وقد مدح حسان بن ثابت بعد ذلك المطعم بن عدي على فعله هذا. وقد أخرج البخاري عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له. (يعني لتركتهم له بغير فداء مكافأة له على ذلك الموقف النبيل) بعض الدروس والعبر في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد أن أعرضت عنه مكة، دليل على مدى التصميم الجازم في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، وعدم اليأس من استجابة الناس لها وبحث عن ميدان آخر جديد للدعوة، بعد أن قامت الحواجز دونها في ميدانها الأول. (د. مصطفى السباعي رحمه الله) في إغراء ثقيف لصبيانها وسفهائها بالرسول صلى الله عليه وسلم، دليلا على أن طبيعة الشر واحدة أينما كانت وهي الاعتماد على السفهاء في إيذاء دعاة الخير، وفي سيل الدماء من قدمي النبي صلى الله عليه وسلم وهو النبي الكريم، أكبر مثل لما يتحمله الداعية في سبيل الله من أذى واضطهاد. (د. مصطفى السباعي) أما دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في البستان ذلك الدعاء الخالد، ففيه تأكيد لصدق الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته، وتصميم على الاستمرار فيها مهما قامت في وجهه الصعاب، وأنه لا يهمه إلا رضى الله وحده، فلا يهمه رضى الكبراء والزعماء ولا رضى العامة والدهماء ( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ) كما أن فيها استمداد القوة من الله باللجوء إليه والاستعانة به، عندما يشتد الأذى بالداعية، وفيه أن خوف الداعية كل الخوف من سخط الله عليه وغضبه لا من سخط أي شيء سواه. (د. مصطفى السباعي) في خروج النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطائف أكبر دليل على مدى الهمة العالية، والتضحية البالغة التي كان يتمتع بها النبي عليه الصلاة والسلام في تبليغه لرسالة ربه فهو لم يقتصر على مكان إقامته، بل تكبد المشقة والتعب في الوصول إلى أناس خارج مكة، لعل الله أن يهديهم فأين شباب الإسلام ممن يكثرون السفر إلى خارج بلدانهم وأوطانهم للسياحة والنزهة، ولو قيل لأحدهم اخرج للدعوة إلى الله لاعتذر لك بأعذار تدل على عدم حرصه وجده في الدعوة إلى دين الإسلام وتبين الحق للناس. ثم في فعله عليه الصلاة والسلام دليل على أن الداعية إلى الله لا بد أن تكون دعوته عامة، لا تقتصر على قطر أو بلد أو قبيلة وأن عليه أن يخرج عن بلده لإيصال دعوة الله جل وعلا إلى الأمم التي تفتقر إلى الدعاة المخلصين، وعليه أن يضحي بجهده ووقته ما استطاع إلى ذلك سبيلا. (وائل الظواهري) على الداعية أن يعلم أن طريق الدعوة إلى الله ودين الحق طريق محفوف بالمكاره، لا يسلم الداعية وهو يسير فيه من التعرض لأذى أعداء الدين من ضرب أو حبس أو سخرية أو ربما القتل، كما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من قبل والواجب عليه عندئذ الصبر والثبات على الحق حتى يأتي وعد الله بنصر هذا الدين والتمكين له. (وائل الظواهري) أن على الداعية إلى الله ألا ييأس عندما يرى إعراض الناس عن الحق وعدم استجابتهم له، بل عليه أن يحاول مرة وأخرى ويأخذ بالأسباب التي تعينه على إيصال الحق لقلوب الناس، فالبرغم مما حدث للنبي عليه الصلاة والسلام في الطائف إلا أنه لم ييأس ولم يقنط بل قال: لعل الله أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله جل وعلا. (وائل الظواهري) فيه بيان رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقومه، إذ عرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين (وهما جبلا مكة) فلم يستجب لذلك بالرغم من المعاملة القاسية التي عاملوه بها، بل رجا من الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله جل وعلا ولا يشرك به شيئا. (د. عبد العزيز الحميدي) كون النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في جوار المطعم بن عدي لا يتنافى مع التوكل على الله تعالى، بل إن ذلك من الأسباب التي كان يفعلها تلافيا لوقوع حرب بينه وبين الكفار، والله سبحانه لم يأذن له بالقتال في ذلك الوقت.(د. عبد العزيز الحميدي) كون النبي صلى الله عليه وسلم أقر حسان على مدحه للمطعم بن عدي، وكونه صلى الله عليه وسلم يبدي استعداده لأن يتنازل عن الأسرى لو كان المطعم بن عدي حيا وكلمه فيهم، دليل واضح على أن من شريعة الإسلام الاعتراف بفضل أهل الفضل والثناء عليهم، بما لهم من معروف وإن كانوا غير مسلمين. (د. عبد العزيز الحميدي) يستفاد من استجارة النبي صلى الله عليه وسلم بالمطعم بن عدي، جواز قبول حماية المعتدلين من الكفار بشرط وجود التمثيل الكامل لدعوة الإسلام، من غير نقص ولا انحراف، وهذا في حال ضعف المسلمين وعدم وجود قوة لهم يستغنون بها عن حماية الكفار، أما في حال وجود هذه القوة فيجب على المسلمين أن يقوموا بحماية الدعاة إلى الله تعالى حتى يتمكنوا من القيام بمهمتهم في الدعوة. (د. عبد العزيز الحميدي) في دخول النبي صلى الله عليه وسلم في جوار رجل من أشراف قريش، وهو القادر على أن يسأل الله تعالى أن يحميه بملائكته أو بأي أمر آخر خارق للعادة، دليل على وجوب العمل بالأسباب الممكنة الوصول للنتائج المطلوبة فهو صلى الله عليه وسلم قدوة لأمته وإذا كان الله تعالى قد من عليه بالعصمة والحماية، فليس ذلك مما يتحقق لأفراد أمته، فكان فعله هذا تنبيه لأمته على أهمية العمل بالأسباب الممكنة وترك ما فوق الطاقة لله تعالى. (د. عبد العزيز الحميدي بتصرف)