عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل

قبل أن نتكلم عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب لكي ينصروه ويعينوه على تبليغ رسالة ربه، يحسن بنا أن نتكلم على زواج النبي صلى الله عليه وسلم من سودة وعائشة رضي الله عنهما. فقد روى الذهبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألا تزوج؟ قال: ومن؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا، فقال: من البكر ومن الثيب؟ فقالت: أما البكر فعائشة ابنة أحب خلق الله إليك، وأما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك. قال: اذكريهما علي. قالت: فأتيت أم رومان فقلت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة قالت: ماذا؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عائشة. قالت: انتظري فإن أبا بكر، آت فجاء أبو بكر فذكرت ذلك له فقال: أو تصلح له وهي ابنة أخيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أخوه وهو أخي وابنته تصلح لي. قالت: وقام أبو بكر، فقالت لي أم رومان: إن المطعم بن عدي ذكرها على ابنه، ووالله ما أخلف وعدا قط تعني أبا بكر، قالت: فأتى أبو بكر المطعم فقال: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ قالت: فأقبل على امرأته فقال لها: ما تقولين؟ قالت: فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تصبئه وتدخله في دينك؟ فأقبل عليه أبو بكر فقال: ما تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع. فقام أبو بكر وليس في نفسه من الموعد شيء. فقال لها: قولي لرسول الله فليأت، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فملكها. قالت: ثم انطلقت إلى سودة بنت زمعة وأبوها شيخ كبير قد جلس عن الموسم، فحييته بتحية أهل الجاهلية وقلت: أنعم صباحا، قال: من أنت؟ قلت: خولة بنت حكيم. فرحب بي وقال: ما شاء الله أن يقول. قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر سودة بنت زمعة، قال: كفؤ كريم ماذا تقول صاحبتك؟ قلت: تحب ذلك. قال: قولي له فليأت. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه. قالت: وقدم عبد بن زمعة فجعل يحثو على رأسه التراب. فقال بعد أن أسلم: إني لسفيه يوم أن أحثو على رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة. قال الذهبي عن هذا الحديث بعد ذكره هذا إسناد حسن. أما عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل، فإنه لما أعرض كفار قريش عن الاستجابة لدعوته قام بتوجيه دعوته إلى قبائل العرب، وقد ساعده على ذلك كون مكة المكرمة مقصد العرب في المواسم، فكان صلى الله عليه وسلم يدور على القبائل يدعوهم إلى الإسلام وإلى أن يمنعوه حتى يبين رسالة ربه. فعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه ومسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي. (أخرجه أبو داود وهو على شرط البخاري قاله الذهبي). وعن ابن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذاك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من الفتك حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء. فلم يقبله أحد ويقولون: قومه أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه! فكان ذلك مما ذخر الله للأنصار. وكان ممن دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم في الموسم كندة، فقد آتاهم وفيهم سيد يقال له مليح فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فأبو عليه. وحدث محمد بن حصين أنه عليه الصلاة والسلام أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فدعاهم إلى الله فلم يقبلوا. وجاء أنه عليه الصلاة والسلام أتى بني حنيفة في منازلهم ودعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا منهم. وذكر الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال: له أرأيت إن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك فأبو عليه. وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء دعوته لقبائل العرب، ولم يدعه كفار قريش ينفرد بالناس، بل كانوا يمرون على القبائل يحذرون الناس منه فقد أخرج الإمام أحمد عن ربيعة الدؤلي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحد يقول شيئا، وهو لا يسكت يقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. إلا أن وراءه رجلا أحول وضيء الوجه ذا غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله وهو يذكر النبوة قلت: من هذا الذي يكذبه؟ قالوا: عمه أبو لهب. وروى أيضا عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم، ومجنة وعكاظ ومنازلهم في منى، من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة فلا يجد أحدا ينصره ولا يؤويه حتى إن الرجل ليرحل من مضر أو من اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل يشيرون إليه بالأصابع. وأخرج الطبراني من حديث الحارث بن الحارث قال: قلت لأبي: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئ لهم. قال: فنزلنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان، وهم يردون عليه ويؤذونه حتى انتصف النهار وانصدع الناس عنه، أقبلت امرأة قد بدا نحرها تحمل قدحا ومنديلا فتناول منها فشرب وتوضأ ثم رفع رأسه فقال: يا بنية خمري عليك نحرك ولا تخافي على أبيك. قلنا: من هذه؟ قالوا: هذه زينب بنته. قال الهيثمي رجاله ثقات. وذكر الإمام الذهبي عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وهو يقول: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا خلفه رجل يسفي عليه التراب، فإذا هو أبو جهل ويقول: لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى. قال الذهبي إسناده قوي. بعض الدروس والعبر مما سبق يتبن مدى اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم البالغ بالدعوة إلى الله، حيث لم يجلس في بيته أو في المسجد الحرام فقط ينتظر الناس أن يأتوا إليه، بل خرج إلى القبائل في منازلهم وغشيهم في مجالسهم ونواديهم يدعوهم إلى الله تعالى. (د. عبد العزيز الحميدي) في هذه الأخبار مثل من التسابق القائم بين أهل الحق ودعاة الباطل، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى توحيد الله وإلى الإسلام ويتنقل بين أحياء العرب ومنازلهم، نجد أهل الباطل يدافعون عن باطلهم وأصنامهم ويتنقلون أيضا بين العرب ليحذروا الناس من النبي عليه الصلاة والسلام، فالواجب على الدعاة إلى الله أن يدركوا هذه الحقيقة وأن يعوها وأن يعلموا أن دعاة الباطل لن يتركوهم للدعوة إلى الحق بأمن ويسر وسهولة، بل سيشاركهم أهل الباطل الميدان ولن يدعوه لهم، والنصر أخيرا للدعاة إلى الله إن هم صبروا وصدقوا مع الله جل وعلا (وائل الظواهري)