بدء إسلام الأنصار والإذن بالهجرة إلى المدينة

كان بدء تعرف الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامهم بعد ذلك ما ذكره الإمام أحمد والطبراني عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن نافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف مع قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: هل لكم إلى خير مما جئتم إليه؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي كتابا ثم ذكر الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ (وكان غلاما حدثا): أي قومي هذا والله خير مما جئتم إليه. قال: فأخذ أبو الحيسر أنس بن نافع حفنة من البطحاء (الحصى) فضرب بها وجه إياس بن معاذ. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا إلى المدينة فكانت معركة بعاث بين الأوس والخزرج. قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي أنه لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. ولعل هذا بدء معرفة الأنصار وسماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ولقائهم معه ثم بعد ذلك لقي النبي عليه الصلاة والسلام في العام التالي مجموعة منهم فعرض عليهم الإسلام. قال ابن إسحاق: لما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم وإنجاز وعده، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض نفسه على القبائل كما كان يصنع في كل موسم فبينما هو عند العقبة (وهي التي ترمى عندها جمرة العقبة) لقي رهطا من الأنصار من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. وكان اليهود أهل كتاب وكان الأنصار أهل شرك وأوثان، فكان إذا كان بينهم وبين اليهود شيء قالوا لهم: إن بينا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقون إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداة والشر ما بينهم فعسى الله أن يجمعهم بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك? ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا، وهم فيما ذكر ستة نفر من الخزرج. فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة، (وهي العقبة الأولى) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء (أي على طريقتها في عدم إيجاب الحرب عليهم) وذلك قبل أن تفرض الحرب عليهم، منهم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك وعبادة بن الصامت وأبو الهيثم بن التيهان. روى عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر بيعة العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غششتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب وإن شاء غفر. (وقد أخرج البخاري نحو هذا الحديث عن عبادة أيضا إلا أنه لم يذكر إن هذا كان في بيعة العقبة الأولى) فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم ين عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة وكان رضي الله عنه يصلي بهم وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤم بعض. بيعة العقبة الثانية ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم ما أرد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله. قال كعب بن مالك: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء: يا هؤلاء إني قد رأيت رؤيا فوالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر (يعني الكعبة) وأن أصلي إليها فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه. فقال: إني لمصل إليها. فقلنا له: لا تفعل. فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة، وقد كنا عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الإقامة على ذلك. فلما قدمنا مكة قال: يا ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه. قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه ولم نره من قبل، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا. قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم (وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا) قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس. فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه فسلمنا ثم جلسنا إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك. فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر؟ قلت: نعم. فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله للإسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: كنت على قبلة لو صبرت عليها. قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معنا إلى الشام ثم خرجنا للحج وواعدنا سول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا. فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذ مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد الرسول صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقية، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب (وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له) فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج (وكانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها) إن محمد منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا من هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة (يعني السلاح كله) ورثناها كابرا عن كابرا فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس (وهم عبادة بن الصامت والبراء بن معرور وعبد الله بن رواحه وسعد بن الربيع وأبو أمامة أسعد بن زرارة وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأسيد بن حضير وسعد بن خيثمة وعبد الله بن حرام ورافع بن مالك وأبو الهيثم بن التيهان) وكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور ثم بايع القوم. فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط يا أهل الجباجب (يعني المنازل من منى) هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب (يعني اسم الشيطان) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق إن شئت أن نميل على أهل منى غدا بأسيافنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم. فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه. وقد صدقوا لم يعلموه قال: وبعضا ينظر إلى بعض، قال: ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدتان قال: فقلت كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ورمى بهما إلي وقال: لتنتعلهما فقال أبو جابر: مه أحفظت الفتى فاردد عليه نعليه. قال: قلت: والله لا أردهما فأل والله صالح لئن صدق لأسلبنه. ونفر الناس من منى فبحث القوم عن الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وكلاهما كان نقيبا فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بشعر رأسه وكان ذا شعر وافر، قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قريش فيهم رجل وضيء أبيض طويل حسن حلو من الرجال فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا. فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة. فقلت: والله ما عندهم بعد هذا من خير، فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى لي رجل ممن كان معهم فقال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟ قلت: بلى لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف تجارتهم وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما، قال ففعلت وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة فقال: لهما إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ويهتف بكما ويذكر أن بينه وبينكما جوار، قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة. قالا: صدق والله إن كان ليجير لنا تجارتنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده. قال: فجاء فخلصا سعدا من أيديهم فانطلق. وقد أخرج نحو هذا الخبر الإمام أحمد والحاكم وقال صحيح ولم يخرجاه وأقره الذهبي وقد ذكر عبادة بن الصامت ما اشتملت عليه بيعة العقبة الثانية فقال: بايعنا رسول الله بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لا ئم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب، ونمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعناه عليها. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة. وقد ذكر ابن إسحاق أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن نضلة الأنصاري (أخو بني سالم بن عوف): يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه. الإذن بالهجرة إلى المدينة روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بمكة إني أر يت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين (وهما الحرتان) فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة. فلما اشتد إيذاء الكفار للمسلمين واستوثق النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أذن لأصحابه بالهجرة، فكان أول من هاجر إلى المدينة مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم ذكر ذلك البخاري وقد لقي كثير من المسلمين عنتا شديدا أثناء هجرتهم من كفار قريش، فممن أوذي أثناء الهجرة وأصابه بلاء أبو سلمة وأسرته، تقول زوجه أم سلمة: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتك هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قال: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني، قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني في حجري ثم خرجت أريد المدينة قالت: وما معي أحد من خلق الله. قالت: فقلت: أتبلغ من لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال: لي إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وابني هذا. قال: والله ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ بي المنزل أناخ بي ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة ثم تنحى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني وقال: اركبي فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع بي ذلك حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة نازلا فيها، فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة. قالت: فكانت تقول والله ما أعلم أهل بيت أصابهم في الإسلام ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة. وعندما أراد صهيب الرومي الهجرة لحق به المشركون وقالوا له: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح البيع أبا صهيب. وقد رويت عدة روايات عن الطبري وغيره في أن قول الله تعالى ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ... (سورة التوبة) قد نزلت بشأنه والله أعلم . وممن هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعياش بن أبي ربيعة المخزومي روى ابن إسحاق عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التناضب من أرض بني غفار، وقلنا أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس عنا هشام وفتن فافتتن. فلما قدموا المدينة لحق بهم أبو جهل والحارث بن هشام ليردوا عياشا وهو أخوهم لأمهم فذكروا له من حزنها عليه وأنها حلفت لا يظلها سقف حتى تراه وكان برا بها فرق لها وصدقهم، فلما خرجا به أوثقاه وقدما به مكة لم يزل بها إلى قبل الفتح. (وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت: اللهم أنج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة) قال عمر رضي الله عنه كنا نقول: ما الله بقابل من هؤلاء توبة، قوم عرفوا الله وآمنوا به، وصدقوا برسوله، ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم في الدنيا، فأنزلت: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (سورة الزمر) فكتبتها بيدي كتابا، ثم بعثت بها إلى هشام، قال هشام بن العاص: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى أصعد فيها النظر وأصوبه لأفهمها، فقلت اللهم فهمنيها، فعرفت أنما أنزلت فينا لما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقتل هشام بأجنادين. وظل المسلمون يتتابعون على المدينة حتى لم يبق فيها إلا مستضعف أو محبوس، وكان آخر من بقي ممن هاجر عبد الله بن جحش رضي الله عنه وكان قد كف بصره، فلما أجمع على الهجرة كرهت امرأته ذلك، وجعلت تشير عليه أن يهاجر إلى غير المدينة، فهاجر بأهله وماله سرا، حتى قدم المدينة، وسطا أبو سفيان على داره بمكة فباعها. وقد مر بها بعد ذلك أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والعباس بن عبد المطلب وحويطب بن عبد العزى، وفيها أهب معطوبة فذرفت عينا عتبة وتمثل ببيت الشاعر: وكل دار وإن طالت سلامتها ???? يوما سيدركها النكباء والحوب وأقبل أبو جهل على العباس قائلا: هذا ما أدخلتم علينا.