حادثة الإسراء والمعراج

لما اشتد الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش، أنعم الله عليه بالإسراء إلى بيت المقدس والمعراج منه إلى السماء، ليخفف عنه شدة ما يجد من أمر الدعوة إليه، ولحكم أخرى أرادها الله جل وعلا. وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه قصة الإسراء فقال: أتي رسول الله صلى الله عليه ومسلم بالبراق (وهي الدابة التي تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها عند منتهى بصرها) فحمل عليها، ثم خرج به جبريل عليه السلام يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم عليه السلام وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، قد جمعوا له فصلى بهم، ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسمعت قائلا يقول حين عرضت علي: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هدي وهديت أمته، قال: فأخذت اللبن فشربت منه، فقال لي جبريل عليه السلام: هديت وهديت أمتك يا محمد. ثم إنه بعد ذلك عرج به إلى السماء، قال مالك بن صعصة رضي الله عنه: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به، قال: بينما أنا في الحطيم (أي الحجر) مضطجعا إذ أتاني آت فجعل يقول لصاحبه: الأوسط بين الثلاثة، قال: فأتاني فشق ما بين هذه إلى هذه (أي من ثغره إلى سرته) قال: فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. ففتح له فلما خلصت فإذا آدم فيها فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال: مرحبا بالإبن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. ففتح له، فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا الخالة، قال: هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما. قال: فسلمت فردا السلام، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. ففتح له، فلما خلصت فإذا يوسف عليه السلام، قال هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد إلى السماء الرابعة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. قال: ففتح فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت ورد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. قال: ففتح فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء، قال: ففتح فلما خلصت فإذا موسى عليه السلام، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، قال: فلما جاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنه غلام بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد حتى أتى السماء السابعة، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل له؟ قال: نعم. فقال: مرحبا به ونعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام، قال: هذا إبراهيم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلا ل هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك حتى إذا خرجوا منه لا يعودون إليه، ثم أتيت بإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن، فقال: هذه الفطرة أنت عليها وأمتك، قال: ثم فرضت علي الصلاة خمسون صلاة في كل يوم فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة في كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بأربعين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيعها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فرجعت فوضع عني عشرا أخر، ثم رجعت إلى موسى فذكر الحديث إلى أن قال: إن أمتك لا تستطيع بخمس صلوات كل يوم، وإني خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قلت: قد سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. فلما نفرت ناداني مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. (وفي رواية هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلا ة عشر فذلك خمسون في الأجر أخرجه البخاري ومسلم) ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح في مكة، فصلى فيها صلاة الغداة، قالت عائشة رضي الله عنها: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن آمن وسعوا إلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا: وتصدقه؟ قال: لهم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. (فلذلك سمي أبو بكر الصديق) ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرفع لي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت أشهد أنك رسول الله. فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت بعير لكم بمكان كذا وقد أضلوا بعيرا لهم فجمعه فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا ويأتونكم يوم كذا، يقدمهم جمل أدهم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتى كان قريب من نصف النهار أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل. وقد أخرج البخاري عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني قريش قمت في الحجر، فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه. الدروس والعبر جاءت هذه المعجزة بعد المحن التي ابتلي بها الرسول صلى الله عليه وسلم لتجديد عزيمته، ولتدلل على أن هذا الذي يلاقيه من قومه ليس سببه تخلي الله عنه وإنما هي سنة الله مع أحبائه في كل عصر ومصر، وبينت للرسول صلى الله عليه وسلم أن المستقبل لدينه وذلك بإقرار إمامته للأنبياء السابقين، وما تمثل له من رموز لهذا المعنى، وبينت له أن الأرض إذا ضاقت في وقت فإن السماء تفتح أبوابها لتستقبله، ولئن آذاه بعض أهل الأرض في وقت فإن أهل السماء يقفون له مستقبلين ومرحبين (د. مهدي رزق الله أحمد) أن الاقتران الزماني والمكاني بين إسرائه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والعروج به إلى السماوات السبع، لدلا لة باهرة على ما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله تعالى، وفيه دلالة واضحة أيضا على العلاقة الوثيقة بين ما بعث به كل من عيسى بن مريم ومحمد بن عبد الله (عليهما السلام)، وعلى ما بين الأنبياء من رابطة الدين الواحد الذي بعثوا به، وفيه دلالة على واجب المسلمين في الحفاظ على هذه الأرض وحمايتها من مطامع أعداء الإسلام. (د. مهدي رزق الله أحمد) أن في جمع الله للمرسلين السابقين من حملة الهداية في هذه الأرض وما حولها ليستقبلوا صاحب الرسالة الخاتمة، دليلا على أن النبوات يصدق بعضها بعضا وأن محمدا هو خاتمهم الذي اكتمل به الدين، وبيان لمكانة محمد صلى الله عليه وسلم عند ربه. (د. مهدي رزق الله أحمد) في فرض الصلاة ليلة الإسراء والمعراج إشارة إلى الحكمة التي من أجلها شرعت الصلاة، فكأن الله يقول لعباده المؤمنين إذا كان معراج رسولكم بجسمه وروحه إلى السماء معجزة، فليكن لكم في كل يوم خمس مرات معراج تعرج فيه أرواحكم وقلوبكم إلي، ليكن لكم عروج روحي تحققون به الترفع عن أهوائكم وشهواتكم وتشهدون به من عظمتي وقدرتي ووحدانيتي ما يدفعكم إلى السيادة على الأرض، لا عن طريق الاستعباد والقهر والغلبة بل عن طريق الخير والسمو عن طريق الطهر والتسامي عن طريق الصلاة. (الأستاذ مصطفى السباعي) هذه الحادثة تبين مدى شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم فقد واجه المشركين بأمر تنكره عقولهم ولا تدركه في أول الأمر تصوراتهم،ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم وتلقي نكيرهم واستهزائهم، فضرب بذلك لأمته أروع الأمثلة في الجهر بالحق أمام الباطل، وإن تحزبوا ضد الحق وجندوا لحربه كل ما في وسعهم. (د. عبد العزيز الحميدي) في هذا الخبر يتبن لنا قوة إيمان أبي بكر الصديق، فإنه لما بلغه هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم (عن طريق كفار قريش) قال لهم: لئن كان قال ذلك لقد صدق. ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. وبهذا استحق لقب الصديق وهذا القول من أبي بكر منتهى الفقه واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر ونزول الوحي من السماء فبين لهم أنه إذا كان غريبا على الإنسان العادي فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم. (د. عبد العزيز الحميدي)