وفاة عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه

في العام العاشر من الهجرة اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشا ما حل به وتوقعوا موته، قالوا لبعضهم البعض إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا. قال ابن عباس: مشوا إلى أبي طالب فكلموه وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل ابن هشام وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه. فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات، قال تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجيب. ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله يا ابن أخي والله ما رأيتك سألتهم شططا، فلما قالها أبو طالب طمع النبي صلى الله عليه وسلم في إسلامه فجعل يقول له أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة . فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا ابن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلى أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. أخرج مسلم نحوه قال وأنزل الله تعالى في الرهط الذين كانوا اجتمعوا إليه وقال لهم ما قال وردوا عيه ما ردوا ص والقرآن ذي الذكر ? بل الذين كفروا في عزة وشقاق إلى قوله أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ? ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ويعنون بالملة الآخرة النصارى . ثم مات أبو طالب وعن سعيد بن المسيب قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقالا : أي أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، قال: فكان آخر كلمة أن قال: هو على ملة عبد المطلب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله جل وعلا ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وقوله تعالى إنك لا تهدي ما أحببت وبموت أبي طالب فقد النبي صلى الله عليه وسلم ناصرا ومعينا له بعد الله جل وعلا، حتى أنه عليه الصلاة والسلام قال : ما زالت قريش تجبن عني حتى مات عمي أبو طالب. هذا ولم ينس النبي صلى الله عليه وسلم فعل أبي طالب معه ونصرته له، ومنع قريش فأخذ يشفع فيه عند ربه حتى خفف عنه العذاب. روى عبد الله بن الحارث بن نوفل عن العباس أنه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار . متفق عليه وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهون أهل النار عذابا أبو طالب، منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه. أخرجه مسلم . وبعد وفاة أبي طالب كانت وفاة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فتتابعت على النبي صلى الله عليه وسلم الأحزان (حتى سمى هذا العام بعام الحزن) حيث كانت رضي الله عنها وزير صدق له عليه الصلاة والسلام مدافعة عنه قائمة بحقوقه ناصرة له، تخفف عنه ما يجد من قومه، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكرها طيلة حياته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لا يسأم من ثناء عليها واستغفار لها فذكرها يوما فاحتملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، فرأيته غضب غضبا أسقطت في خلدي وقلت في نفسي: اللهم إنك إن أذهبت غضب النبي صلى الله عليه وسلم لم أعد إلى ذكرها بسوء، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال: كيف قلت، والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه مني، قالت: فغدا وراح علي بها شهرا. وقالت أيضا: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة مما كنت أسمع من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، وما تزوجني إلا بعد موتها بثلاث سنين، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. متفق عليه. وللفائدة فإن تسمية هذا العام بعام الحزن كان من قبل بعض المؤرخين ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه بذلك. بعض الدروس والعبر: إن الحزن على فقد القريب الحامي لدعوة الحق غير المؤمن بها وعلى فقد الزوجة المؤمنة المخلصة حزن يقتضيه طبيعة الإخلاص للدعوة والوفاء للزوجة المثالية في تضحياتها وتأييدها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات أبو طالب: رحمك الله لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله فاقتدى المسلمون برسولهم يستغفرون لموتاهم المشركين حتى نزل قوله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم فامتنع النبي عن الاستغفار لأبي طالب كما امتنع المسلمون عن الاستغفار لموتاهم. (مصطفى السباعي) أن الزوجة الصالحة المؤمنة بدعوة الحق تذلل كثيرا من الصعاب لزوجها الداعية إذا شاركته همومه وآلامه، وبذلك تخفف عنه عبء هذه الهموم وتبث في نفسه الاستمرار والثبات فيكون لها أثر في نجاح الدعوة وانتصارها، وموقف السيدة خديجة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى لما تستطيع الزوجة المؤمنة بدعوة الخير أن تلعبه من دور كبير في نجاح زوجها الداعية وثباته واستمراره في دعوته، وفقد مثل هذه الزوجة في احتدام معركة الإصلاح خسارة كبيرة لا يملك معها زوجها الداعية إلا أن يحزن ويأسى .(مصطفى السباعي)