رحلة مختلفة: أيام في ربوع الصومال البائسة

ملايين الناس يسافرون كل يوم، يضربون في فجاج الأرض، يرحلون من قطر إلى آخر، يذرعون أجزاء المعمورة بحثا عن المال، والمتعة، والسطوة، والقوة، والتسلية..الخ، ولكل مرتحل راحلة وهدف، لكن من كانت رحلتهم كرحلة الشيخ محمد الخميس ورفاقه في وسيلتها أو هدفها قليلون، إنها رحلة- أو قل مغامرة تستحق أن نقف على يومياتها! يكتبها لنا الشيخ بنفسه فيقول: انطلقنا من نيروبي عاصمة كينيا بعد صلاة الفجر، إلى مقديشو على متن إحدى طائرات شحن البضائع، إذ لا توجد رحلات مجدولة للركاب، بعد ثلاث ساعات هبطنا على شارع ترابي، كان في الأصل مزرعة، فالمطار الدولي مغلق منذ سنوات، وجدنا في انتظارنا سيارتين بكل واحدة منهما ثلاثة من المسلحين لحراستنا خلال الرحلة، إذ إننا نمر بنقاط عبور عديدة تسيطر عليها العصابات كما أن توزيع المواد الغذائية يحتاج إلى حراسة مشددة. سبقنا إلى مقديشو خمس شاحنات تحوي 105 أطنان من الأغذية والأدوية قدمتها حكومة خادم الحرمين الشريفين من خلال الهيئة العليا لمساعدة منكوبي الفيضانات في الصومال، وذلك لتوزيعها بمعرفة لجنة مسلمي أفريقيا، عبر مراكزها الإغاثية (9 مراكز) والطبية (10 مراكز) المنتشرة في قريولي ومدال وجلب وبلدوين وجلجدود، ويعمل في هذه المراكز 100 موظف بين مشرف وإداري وداعية وممرض وحارس يوزعون الأطعمة على المتضررين على شكل سلة غذاء -كل أسبوعين- تحتوي على 8 كيلو غرامات أرز، ومثلها دقيق و 4كيلو غرامات سكر ومثلها فاصوليا، و3 ليترات زيت، وقد وزعت مراكز اللجنة حتى الآن أكثر من 650 طنا من الأغذية والأدوية. انطلقنا من مقديشو إلى قريولي ومعنا معلبات وجالونات ماء نقية للشرب، وخمس كراتين لاستخدامها في حالة الإصابة بالكوليرا ومجموعة من أغصان الشجر لعمل ناموسيات تحمينا من البعوض عند توقفنا فضلا عن كاميرات التصوير والفيديو. كانت الطرق سيئة للغاية حيث لا تزيد سرعتنا أحيانا عن 10 كيلو مترات في الساعة، لأن الأمطار والفيضانات خلقت حفرا يصل عمقها إلى مترين وأكثر، فالشاحنات التي أرسلناها من مقديشيو تقف عند نقطة قريولي التي تبعد عن المدينة 10 كيلو مترات، ثم تنتقل حمولتها إلى تراكتور لأن الطريق لا يمكن أن تسلكه شاحنة. بدأنا التوزيع في مراكز قريولي، حيث يعاني النازحون الجوع والمرض، إذ لا توجد لديهم مياه نقية للشرب، فيستخدمون مستنقعات ومخلفات الأمطار والفيضانات التي تشاركهم فيها حيواناتهم، وذلك أحد أهم أسباب الأمراض التي يعانيها هؤلاء. في اليوم نفسه قمنا بالاطلاع على مصادر المياه التي كانوا يستخدمونها قبل ذلك، فوجدناها عبارة عن بئر ارتوازية تعطلت عن العمل لاحتياجها إلى حوض نظيف وبعض التوصيلات المائية ووقود لضمان استمرار ضخ المياه النظيفة خلال 24 ساعة، وبفضل الله تم إصلاحها وتأمين مياه الشرب لجميع النازحين بالمنطقة. في صباح يوم الخميس انتقلنا إلى مراكز مدل براوي وفيها النازحون من مدينة سبلالي، اجتمعنا مع شيوخ مدينة سبلالي ومسؤوليها وطلبوا منا إيقاف الإغاثة عنهم ومساعدتهم في العودة إلى حياتهم الطبيعية قبيل اجتياح الفيضانات لهم، وذلك يتطلب أمرين: -إصلاح الطريق من مدل براوي إلى سبلالي (25 كم). -تأهيل المزارعين بتزويدهم بالبذور وأدوات الحرث. طلبنا منهم مرافقتنا لرؤية الطريق المراد إصلاحه للرجوع إلى مدينتهم فقطعناه في 6 ساعات معظمها مشيا على الأقدام، وبعضها خوضا في المستنقعات التي تتوسط الطريق وعمقها أكثر من متر. بعد صلاة فجر الجمعة انطلقنا من مدل براوي إلى مدينة جلب التي تبعد 170 كم قطعناها في 12 ساعة، لأن الطريق مقطوع بحفرة كبيرة وقنوات مائية بسبب الفيضانات، الأمر الذي تطلب منا استخدام السيارة تارة وعبور مجمعات مائية بقطع من الفلين تسع شخصين، تارة أخرى والسير على الأقدام لمدة ساعتين تخللهما خوض بعض القنوات المائية، أما المواد الإغاثية التي معنا فقد وصلت إلى جلب بنفس هذه المراحل. وصلنا مدينة جلب التي دمرتها الحرب الأهلية تدميرا كبيرا، إذا هي ملتقى طريق مقديشيو وكسمايو وبارديرا، وكانت هذه المدن محورا للصراع بين الفصائل المتناحرة، ومدينة جلب من أكثر المناطق تضررا بالفيضانات، إذ حاصرتها المياه من جميع الجوانب وقطعتها عن العالم الخارجي، وأصبح من المستحيل تقريبا الوصول إليها في تلك الفترة إلا عن طريق الطائرات، لكن لا يوجد بالمدينة مطار، في بداية الفيضانات أوصلنا 16 طنا من المساعدات سارت بالمياه مدة أسبوع، وبعدها أصبح إيصال المواد متعذرا، فقمنا بتزويد مراكزنا الإغاثية بمواد نشتريها من داخل جلب. في مدينة جلب منظمتان تعملان في المجال الإغاثي والصحي، هما لجنة مسلمي أفريقيا ومؤسسة الرحمة العالمية ( وهي مؤسسة أمريكية إسلامية) وفي الآونة الأخيرة وبعد انحسار المياه تدريجيا دخلت منظمة الصليب الأحمر الدولي. أما برنامج الغذاء العالمي (WFP) فقد كان يسقط إغاثته للمتضررين جوا، وكان ضررها أكثر من نفعها، إذ ترمى مواد الإغاثة من الطائرات فيتقاتل عليها العصابات والميليشيات، ولا حظ للضعفاء والمتضررين فيها، رأينا أطنانا كبيرة من هذه المواد تباع في الأسواق، الفائدة الوحيدة التي يجنيها الفقراء والضعفاء من هذه العملية أن المواد الغذائية يقل سعرها بعد الإنزال مباشرة حيث تقوم العصابات ببيعها في الأسواق بسعر منخفض. يقع أحد مراكزنا الأربعة بمدينة جلب في مستشفى الجذام وهو من أكبر المستشفيات المتخصصة في هذا المرض، بنته إيطاليا عام 1923م، يؤمه المصابون من شرق أفريقيا كلها. منذ غياب الحكومة المركزية قبل 8 سنوات ولعدم وجود جهة تشرف على تسيير المستشفى وتشغيله تحول إلى قرية كبيرة للمصابين بالجذام، وبنت لهم بعض المنظمات الغربية بيوتا من الطين والخشب، وبعضهم يسكن في منشآت المستشفى حتى لم يعد للمستشفى وجود وتسميته بقرية المصابين بالجذام أقرب من تسميته بالمستشفى، معظم المجذومين مقطوعو أصابع الأيدي والأرجل ومتزوجون ولهم ذرية، ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي ومعظمهم يعمل بالزراعة، ولهم شيخ يؤمهم للصلاة ومدرس للقرآن، ومسؤول أمن، وقد نظموا طريقة حياتهم بشكل جيد، إحدى نزيلات هذه القرية امرأة طاعنة في السن تجاوز عمرها الستين عاما، أصابع يديها ورجليها مقطوعة، ونظرها ضعيف، وسمعها ثقيل، وكلامها فيه تاتأة، عندما جاء دورها في استلام حصتها ضمت الطعام على صدرها، إذ لا تستطيع حمله بيديها وتوجهت إلى خالق السماء وبدأت تتكلم بكلام كثير لم أفهم منه شيئا، ولكني عرفت أنها تدعو لمن كان سببا في إيصال الطعام لها، ثم طلبت ثوبا يسترها للصلاة، فقد كان الثوب الوحيد الذي تملكه باليا، وجزء كبير من جسمها غير مستور، للجنة هذا المستشفى مركز للإغاثة، وتنوي اللجنة إغلاقه تدريجيا بعد تأهيلهم وتأمين معيشتهم وسكنهم الذي دمرته الفيضانات. قضينا ليلة الجمعة في مقر مؤسسة الرحمة الأمريكية التي تعمل في المجال الصحي، وأرغمنا على الاشتراك في برنامج قسري للتطوع بالدم، حيث عشرات من إبر البعوض كانت تخترق أجسامنا متخطية كل خطوط الدفاع التي كانت بحوزتنا. في الصباح الباكر من يوم السبت استمرت عملية التوزيع في المراكز الأخرى وتفقد المراكز الطبية ثم زيارة بعض الأماكن لمشاهدة الأضرار والدمار الذي خلفته الفيضانات والسيول. وفي منتصف النهار بدأت رحلة العودة واستمرت حتى مساء يوم الأحد، حيث وصلنا إلى مقديشو، حيث زرنا مركز السلام لرعاية الأيتام بمقديشو الذي يضم (200 يتيم) يتلقون فيه الإعاشة من طعام وشراب ولباس، فضلا عن الرعاية الصحية والتعليمية من خلال مدارس ومستوصفات اللجنة بالصومال. مبنى مركز السلام للأيتام كان مدرسة كبيرة للبنين قبل انهيار الحكومة السابقة، اقتطعت اللجنة نصفها وجعلته مركزا للأيتام، وبنت فيه مسجدا يخدم المدرسة والمركز، وحفرت بئرا ارتوازية وأنشأت مخبزا كمشروع استثماري يعود ريعه لصالح الأيتام. بعد ثلاث سنوات من تسيير المبنى زاد عدد طلاب المدرسة حتى وصل إلى 1600 طالب وطالبة يدرسون المرحلتين الابتدائية و الإعدادية على فترتين، وضاقت فصول الدراسة وأصبح الطلاب الذين لا يجدون مكانا للدراسة أكثر من الذين يحالفهم الحظ ويقبلون، أذكر أنه في بداية عام 1996م حينما زاد عدد الطلاب بصورة كبيرة حيث تقدم للصف الأول الابتدائي 1000 طالب. وكنا نستطيع قبول 200 طالب فقط، قمنا بإجراء اختبار قبول اجتازه 400 طالب، فاضطررنا لتقسيمهم إلى عامين: 200 طالب عام 1996م، و200 طالب للعام القادم 1997م. حينما رأت إحدى المنظمات الألمانية واسمها (DIAKONIA CARITAS GERMANY) هذا المنظر وهي من المنظمات المهتمة بالنواحي التعليمية تبرعت ببناء توسعة للمدرسة تكلفت 66 ألف دولار وشملت التوسعة بنا ء 9 فصول دراسية جديدة تم تحويل أربع فصول منها إلى خلاوي لتحفيظ القرآن الكريم، يتعاقبها جميع الطلاب صباحا ومساء. حضرت حفل تخريج سبعة من الطلاب الذين درسناهم القرآن الكريم في هذا المبنى، حفظوا كتاب الله عز وجل في شهر رمضان 1418هـ، وهناك ثلاثون طالبا من المركز يحفظون من 20-29 جزءا من القرآن الكريم ونتوقع لهم إكمال حفظه خلال أشهر قادمة بإذن الله تعالى. بعد زيارة مركز الأيتام قام فريق العمل الذي اشترك في هذه الرحلة بتشكيل لجنة لدراسة مشروعات تأهيلية للمتضررين، قامت اللجنة بدراسة وضع المتضررين وتنفيذ زيارات عديدة لمراكزهم وعقد اجتماعات مع الشيوخ والمسؤولين في القرى المتضررة، وقد توصلت اللجنة إلى تحديد عدة مشروعات تأهيلية تساهم في إعادة المتضررين إلى وضعهم الطبيعي الذي كانوا عليه قبل كارثة الفيضانات والسيول. ومن المشروعات التي اقترحتها اللجنة: -إصلاح طريق مدل براوي- سيلالي وطوله 25 كيلو مترا وتكاليفه حوالي 97 ألف ريال. -تأهيل 2000 من المزارعين المتضررين من الفيضانات بتزويدهم بما يحتاجون من البذور بتكاليف 300.000 دولار. -إعادة بناء 50 منزلا للمصابين بالجذام بتكاليف 50 ألف دولار. -بناء مساجد ومدارس في مناطق مختلفة من الصومال وتصل تكلفة المسجد إلى 17 ألف دولار وتكلفة المدرسة إلى 33 ألف دولار. -كفالة الطلاب وتصل تكلفة كفالة الطالب لإتمام المرحلة الابتدائية 200 دولار، وإتمام المرحلة الإعدادية 120 دولارا وإتمام المرحلة الثانوية 180 دولارا (500 دولار لإتمام المراحل الثلاث). وفي صبيحة يوم الاثنين غادر فريق العمل مقديشو إلى زنجبار في رحلة أخرى من رحلات الخير.