الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما

سبق في موضوع أوقات الصلاة بيان وجوب فعل كل صلاة في وقتها المحدد لها وهذا هو الأصل. لكن إذا وجدت حالات تستدعي الجمع بين الصلاتين أبيح الجمع بل كان مطلوبا ومحبوبا إلى الله تعالى لموافقته لقاعدة الدين الإسلامي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله: هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا. وفيهما عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يسروا ولا تعسروا وبشروا (وفي رواية: سكنوا) ولا تنفروا. إذا تبين هذا فقد وردت السنة بالجمع بين الصلاتين: الظهر والعصر أو المغرب والعشاء في وقت إحداهما في عدة مواضع: الأول: في السفر سائرا ونازلا: -ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر. -وفي صحيح مسلم عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر فيجمع بينهما. -وفيه أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. -وفيه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا. -وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأبطح بمكة في الهاجرة (أي وقت الظهر)، قال فخرج بلال فنادى بالصلاة ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع الناس عليه يأخذون منه، ثم دخل فأخذ العنزة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم (أي من قبة كان فيها من أدم)، كأني أنظر إلى وبيص ساقيه فركز العنزة ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين. وظاهر هذه الأحاديث أنه كان يجمع بين الصلاتين وهو نازل فإما أن يكون ذلك لبيان الجواز أو أن ثمة حاجة إلى الجمع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في حجته حين كان نازلا بمنى. وعلى هذا فنقول الأفضل للمسافر النازل أن لا يجمع، وإن جمع فلا بأس، إلا أن يكون في حاجة إلى الجمع إما لشدة تعبه ليستريح أو لمشقة طلب الماء عليه لكل وقت ونحو ذلك فإن الأفضل له الجمع واتباع الرخصة. وأما المسافر السائر فالأفضل له الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء (حسب الأيسر له) إما جمع تقديم، يقدم الثانية في وقت الأولى، وإما جمع تأخير يؤخر الأولى إلى وقت الثانية: ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أي تزول أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. -وذكر في فتح الباري أن إسحاق بن راهويه روى هذا الحديث عن شبابة فقال: كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل. قال: وأعل بتفرد إسحاق به عن شبابة ثم تفرد جعفر الغرباني به عن إسحاق، قال: وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان. الثاني : عند الحاجة إلى الجمع بحيث يكون في تركه حرج ومشقة سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر: -لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر فقيل لم فعل ذلك. قال: كي لا يحرج أمته. -وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. -ففي هذين الحديثين دليل على أنه كلما دعت الحاجة إلى الجمع بين الصلاتين وكان في تركه حرج ومشقة فهو جائز سواء كان ذلك في حضر أو سفر. -قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته فيباح الجمع إذا كان في تركه رفع حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور. أهـ. -ونقل في الإنصاف عنه أي عن شيخ الإسلام ابن تيمية جواز الجمع لتحصيل الجماعة إذا كانت لا تحصل له لو صلى في الوقت، قلت: ودليل ذلك ظاهر من حديث ابن عباس حيث دل على جواز الجمع للمطر وما إلى ذاك إلا لتحصيل الجماعة لأنه يمكن لكل واحد أن يصلي في الوقت منفردا ويسلم من مشقة المطر بدون جمع. الجمع في عرفة ومزدلفة أيام الحج: في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس .. قال: أذن ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا. وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة قال فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له: الصلاة، قال: الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ. فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا. وفي حديث جابر الذي رواه مسلم أنه صلى في مزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين. ففي هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في عرفة بين الظهر والعصر جمع تقديم. وجمع في مزدلفة بين المغرب والعشاء جمع تأخير. وإنما أفردنا ذكرهما لأن العلماء اختلفوا في علة الجمع فيهما، فقيل السفر وفيه نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في منى قبل عرفة ولا حين رجع منها. وقيل النسك وفيه نظر أيضا إذ لو كان كذلك لجمع النبي صلى الله عليه وسلم من حين أحرم. وقيل المصلحة والحاجة وهو الأقرب، فجمع عرفة لمصلحة طول زمن الوقوف والدعاء، ولأن الناس يتفرقون في الموقف فإن اجتمعوا للصلاة شق عليهم، وإن صلوا متفرقين فاتت مصلحة كثرة الجمع، أما في مزدلفة فهم أحوج إلى الجمع لأن الناس يدفعون من عرفة بعد الغروب فلو حبسوا لصلاة المغرب فيها لصلوها من غير خشوع، ولو وقفوا لصلاتها في الطريق لكان ذلك أشق فكانت الحاجة داعية إلى تأخير المغرب لتجمع مع العشاء هناك. وهذا عين الصواب والمصلحة لجمعه بين المحافظة على الخشوع في الصلاة ومراعاة أحوال العباد. فسبحان الحكيم الرحيم، ونسأله تعالى أن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على نبينا محمد خير المخلوقات وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات