حديث إنما الأعمال بالنيات

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما أما بعد: فقبل الدخول في مقالات هذه الزاوية يحسن بنا أن نذكر طرفا من التعريفات لمفردات عنوانه، وذلك على النحو الآتي: أولا- فقه الدعوة: جملة تتكون من جزأين الفقه، والدعوة: فالفقه لغة: العلم بالشيء والفهم له، والفطنة، والجمع فقهاء، وفقهه كعلمه: بمعنى فهمه. وتفقه: تفهم. وفقهه تفقيها، وأفقهه: علمه، والفقه أخص من العلم، قال الله سبحانه وتعالى: ذلك بأنهم قوم لا يفقهون. ويقال: فقه الأمر، فقها، وفقها، أحسن إدراكه. وقيل: الفقه، إدراك معنى الكلام، أو فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قول أو فعل. وأما الفقه في الاصطلاح: فعرفه الفقهاء بتعريفات متقاربة، منها: قول بعضهم بأن الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية. وقيل: الفقه هو: العلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفرعية، بالنظر والاستدلال. أما صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين-حفظه الله- فيقول عن الفقه: بأنه معرفة أحكام الله، عقائد وعمليات. فالفقه في الشرع ليس خاصا بأفعال المكلفين، أو بالأحكام العملية، بل يشمل حتى الأحكام العقدية، حتى إن بعض أهل العلم يقولون: إن علم العقيدة هو الفقه الأكبر.أهـ أخي القارئ: وبعد أن عرفنا الفقه في اللغة والاصطلاح تعال بنا لنعرف معنى الدعوة لغة واصطلاحا: فالدعوة لغة: من دعا الرجل دعوا ودعوة ودعاء ودعوى: ناداه. ودعوت فلانا أي صحت به واستدعيته. وتداعى القوم: دعا بعضهم بعضا حتى يجتمعوا. ودعاه إلى الأمير: أي ساقه إليه. وفي الاصطلاح: قيل معنى الدعوة هو: تبليغ الإسلام للناس، وتعليمه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة. وقيل: هي البيان والتبليغ لهذا الدين أصولا، وأركانا، وتكاليف، والحث عليه، والترغيب فيه. وإذا أضيفت لفظهفقه إلى لفظة الدعوة أصبح تعبير فقه الدعوة مدلولا خاصا نلخصه في الآتي: استنباط وفهم تاريخ الدعوة وأسبابها وأساليبها ووسائله وأركانها وأهدافها ونتائجها من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، استنباطا وفهما يمكن الدعاة إلى الله سبحانه من عرضها بأحسن طريقة، وأكثر ملاءمة لمن توجه إليهم الدعوة في مختلف بيئاتهم، ومتعدد أجناسهم، ومتباين ألسنتهم ولغاتهم، عملا بقوله الله سبحانه وتعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين أيها الأخوة الكرام: إن الله سبحانه وتعالى، ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، إذ يقول الله عز وجل: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ولهذا أرسل الله الرسل والأنبياء مبشرين ومنذرين، يقول سبحانه وتعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فكان كل كتاب لكل أمة ينزله الله سبحانه وتعالى، للفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند التنازع والاختلاف، أن يرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولولا أن في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فصل النزاع، لما أمر الله بالرد إليهما، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا. هذا وإن ارتباط الدعوة بالكتاب والسنة-دراسة وتأصيلا-يأتي من قول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين، فالدعوة يجب أن تكون على بصيرة، ولا تكون على بصيرة إلا إذا كانت على علم وبيان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أي على بصيرة فيما تدعو إليه، وعلى بصيرة بحال المدعو، وعلى بصيرة في كيفية الدعوة، حيث يجب علينا أن نعرف طريقنا جيدا، ونسير فيه على بصيرة وإدراك ومعرفة، لا نخبط ولا نتحسس، ولا نحدس، فهو اليقين البصير المستنير. ولهذه الأهمية ظهر لي أهمية أن يكون حديثي في هذا المقالات حول هذا الموضوع المهم، وأن تكون في السنة النبوية الشريفة. ولا تساع السنة وكثرة كتبها سأكتفي بالأحاديث الصحيحة وخاصة ما ورد في صحيح البخاري، وصحيح مسلم. هذا ومما يبين أهمية موضوع هذه المقالات النقاط الآتية: أولا- أن الحديث النبوي الصحيح هو أساس مادته، وهذا يعني الأخذ من النبع النقي الصافي الذي يتصف بالثبات والاستقرار، لأنه يستقي مادته من أعظم كتب السنة الصحيحة. ثانيا- الإقتداء بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك عبادة لله تعالى وهداية منه، وتنفيذ لأمره، يقول سعيد بن إسماعيل الزاهد: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وإن تطيعوه تهتدوا أخي القارئ: إن أول حديث نبدأ به هذه المقالات هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات، وذلك سيرا على عادة كثير من مؤلفي كتب السنة والصحاح، وتشبها بهم، إذ كانوا يبدؤون كتبهم بذكر هذا الحديث، فنقول: ذكر الإمام البخاري-رحمه الله تعالى- في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أن علقمة بن وقاص الليثي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (وفي رواية للبخاري) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه. وفي رواية عند البخاري ومسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه. أخي القارئ: لعل من المهم أن نشرح بعض الألفاظ الغريبة في الحديث قبل أن نبدأ في ذكر الفقه الدعوي المستخلص منه: فلفظة الأعمال هي- جمع عمل وهو مصدر قولك عمل يعمل عملا، قال ابن حجر-رحمه الله-: والمقصود الأعمال الصادرة من المكلفين. ولفظة النيات هي- جمع نية من نوى ينوي نية، واختلف في تفسير النية، فقيل: هي القصد إلى الفعل، وقيل: هي قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له، وقيل: النية القصد وهو عزيمة القلب. وأما لفظة هجرته فمعنى- الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه عن غيره، وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الوجه الأول- الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة. وأما الوجه الثاني فهي- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه من المسلمين. أخي القارئ: إن في هذا الحديث من الفقه الدعوي الشيء الكثير نختار منه في هذه المقالة الآتي: أهمية الخطابة في الدعوة إلى الله: وذلك يظهر من أن هذا الحديث العظيم الذي عليه مدار كثير من الأحكام، نقل إلينا وانتشر عن طريق الخطبة، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاله على المنبر في خطبة له متأسيا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خطب به حين قدم المدينة مهاجرا، وإن كان لم يصح بذلك خبر صريح، ولكن كما قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- إن الرواية التي وقعت في صحيح البخاري-رحمه الله- في باب ترك الحيل بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية فيها إيماء إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم في حال خطبة، وهذا لعله فهم من قوله: يا أيها الناس فلذا ينبغي للداعية إلى الله سبحانه وتعالى الحرص على استخدام الخطابة في دعوته، وأن يعطيها من الاهتمام بها وحسن الاستعداد لها، الشيء الكثير، لأنها من أبرز الوسائل الدعوية التبليغية، وذلك لما يرجى أن تحدثه من تأثير فوري في المستمعين، ثم لنا أن نلفت أنظار الدعاة إلى ما تتميز به الخطبة من اهتمام بالغ بها، وتأكيد من الشارع الحكيم على الحضور والإنصات والاستماع وأخذ الزينة لها، فهذا مما ييسر على الخطيب مهمته، ويساعده على نشر دعوته بين الناس على اختلاف أحوالهم وأنواعهم. الفائدة الثانية: حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته للآخرين: فمما سبق ذكره في الفائدة الأولى بأن عمر رضي الله عنه قال هذا الحديث على المنبر وهو يخطب، وما ذكره ابن حجر-رحمه الله- من الإيماء الذي في رواية كتاب الحيل من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حال خطبة، يلمس فيه حرص أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقة تبليغه لهذا الحديث على المنبر وهو يخطب، فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يحرصون أشد الحرص في دعوتهم للناس على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته وتربيته لهم، ومما يشهد لذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه لما قيل له: يا أبا عبد الرحمن لوددنا أنك ذكرتنا كل يوم. قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا. فلذا يقال للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى: إذا أردتم النجاح والتوفيق في دعوتكم، فعليكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهجه وهديه في دعوته، يقول الله سبحانه وتعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني الفائدة الثالثة: أهمية الإخلاص في حياة المسلم: النية في كلام العلماء تقع بمعنيين: أحدهما تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر، وتمييز رمضان من غيره، أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من الجنابة عن غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك. والثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل وهل هو خالص للـه وحده لا شريك له أم للـه وغيره، وهذا المعنى هو المراد في غالب كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة عن النية. ومما ورد في السنة من تسمية هذا المعنى الأخير بالنية فكثير جدا، فمن أمثلة ذلك ما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من غزا في سبيل الله تعالى ولم ينو إلا عقالا فله ما نوى، رواه النسائي، وحسنه الألباني. وفي هذا الحديث يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من شرط صحة الأعمال: النية الصالحة إنما الأعمال بالنيات، وأن الأجر على الـعمل يكون بقدر نيته لهذا العمل وتعظيمه وإنما لكل امرئ ما نوى، لذا فإن الإخلاص في عمل المسلم إلى الله تعالى أمر ضروري لقبول عمله، ونجاح دعوته، فالدعوة لا يوجد لها أثر إيجابي في الداعي أو في المدعو ما لم تقترن بالإخلاص للـه تعالى. هذا وقد أوحى الله تعالى إلى كل نبي ثم إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالإخلاص وأن الأعمال بالنيات، إذ يقول الله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله تعالى مخلصين له الدين، وذلك لما للنية من أثر كبير في نجاح الداعية أو فشله، وقبول عمله، يقول عليه الصلاة والسلام: من كانت الدنيا همه فرق الله تعالى عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله تعالى له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة رواه ابن ماجة وصححه الألباني. ويقول داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك بها خيرا وإن لم تنصب، واستحضار النية يحتاج من المسلم إلى جهد ومتابعة،يقول سفيان الثوري رحمه الله ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي. رابعا: ومن الفقه الدعوي في حديث هذه المقالة: الحث والترغيب في الهجرة إلى الله تعالى : فمن قوله عليه الصلاة والسلام :فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله يظهر الاتحاد بين لفظي الشرط والجزاء،والمبتدأ والخبر، وهذا في اللغة يفيد المبالغة في التعظيم، نحو: أنا أنا، وشعري شعري، ومن قصدني قصدني. وهذا يظهر منه: الحث والترغيب في الهجرة التي تكون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذا وقد ذكر الحافظ ابن حجر وغيره أنه قد اشتهر بين الناس أن سبب ورود هذا الحديث، قصة مهاجر أم قيس، فعندما خطبها وهو في مكة وهي في المدينة، أبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها أ هـ. وحديث هذا الباب وإن كان سبب مورده خاصا كما ذكرت قبل قليل، فإن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فيشمل جميع أقسام الهجرة، من الفرار بالدين من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، أو من أرض الخوف إلى أرض الأمن والأمان. روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن أبي سعيد رضي الله عنه أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة؟ فقال: ويحك إن شأن الهجرة لشديد. فالمسلم الذي يهاجر من بلده لله تعالى، يقدم على عمل عظيم، وشأن كبير، فهو يفر بدينه إلى حيث يعبد الله تعالى، بأمن وأمان ويدعو إلى دينه وينشره في بيئة جديدة تكفل مناخ الحرية للدعوة الإسلامية. الفائدة الدعوية الخامسة من هذا الحديث هي: التنبيه على خطر الدنيا، وتخصيص المرأة منها لبيان شدة خطرها على الرجال: فمن قوله صلى الله عليه وسلم: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه بيان بأن العمل إذا كان للدنيا - ومنها المرأة - ولم ينو فيه لله تعالى نية طيبة لم ينل صاحبه عليه الأجر والثواب في الآخرة من الله تعالى، وتحقيرا لهذه النية الدنيوية وتنبيها على ضعفها وخطرها، لم يكررها الحديث كما كرر النية التي لله ورسوله صلى الله عليه وسلم في العبارة الأولى، فلذا يجب على كل مسلم وخاصة الداعية أن يحذر من الدنيا فهي إذا خالطت نيته وحرص عليها أفسدت عليه دينه، وثبطت عزيمته في مجال الدعوة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم محذرا من ذلك: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه رواه الترمذي وقال عنه: حسن صحيح. إخواني القراء: هذا وقد اختلف في النساء هل هن من الدنيا أم لا، والصحيح أنهن من الدنيا لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه النسائي: حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة. ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم: الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة وتخصيـصها مـن سائـر أمور الدنيا. تأكيدا على شدة خطرها وفتنتها للرجل، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال، من النساء الفائدة السادسة من هذا الحديث قواعد تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : فقد احتسب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول على الرجل الذي هاجر بنية نكاح المرأة، وبأي نية دنيوية أخرى، فخطب في ذلك وبين الفرق بين من كانت هجرته لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، ولم يصرح باسم الرجل المحتسب عليه، ويذكره بشخصه. وفي ضوء ذلك ينبغي للدعاة إلى الله تعالى: معرفة أحوال مجتمعاتهم، وما يقع فيها من منكرات للاحتساب عليها وإنكارها وإزالتها. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم يكن على معرفة بأحوال أصحابه رضي الله عنهم، وما يجري بينهم، لما عرف مثل هذه النية وسبب هذه الهجرة. ثم على الدعاة أن يعلموا أن الإنكار والاحتساب على الأخطاء والمنكرات يجب أن يكون بحكمة وفقه لقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتصريح بالأسماء، والتشهير بالأشخاص الذين وقع منهم المنكر، كثيرا ما يكون لا فائدة فيه بل قد يكون الأثر في المدعوين عكسيا، مما يجعلهم يتمادون في منكرهم ويصرون عليه، ولعل هذا من العوامل التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يصرح باسم الشخص المقصود؛ لأن القصد هو إزالة هذا المنكر وعدم تكراره منه أو من غيره. ثم نجد في هذا الحديث فائدة أخرى، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الخطأ فقط، بل نهى عنه وبين الطريق الصحيح، نهى عن الهجرة بقصد الدنيا وهذا خطأ، وبين الصحيح وهي الهجرة بقصد الآخرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل: فمن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه فقط، بل بين الشق الآخر الصحيح وهو : فمن كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله فهجرته إلى الله تعالى ورسوله. لأن المسلم عندما يدعو الآخرين فينهاهم عن أمور، ويحذرهم منها، ولا يكتفي بذلك بل يبن لهم العوض، أو البديل، أو الصحيح، يساعد بفعله ذلك على ترك الخطأ واجتنابه، فبعمله هذا يـسد باب المـحظور، ويفتح باب المباح، فمثال هذا الطبيب الناصح يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا هو شأن أطـباء الأديـان والأبـدان. وهـذا هو شأن خلق الـرسل - عليهم السلام - وورثتهم من الدعاة إلى الله تعالى. الفائدة السابعة من هذا الحديث هي: أهمية الحذر من الإقدام على فعل،أو الأمر به أو النهي عنه إلا بعد معرفة حكمه ومشروعيته: يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأن فيه أن العمل يكون منفيا إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة حكمه فعندما يلتزم المسلم الداعية بهذا الأمر، يقل خطؤه ويصح عمله، وتكون دعوته على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول الله تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن هذا والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.