حديث بداية الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فحديث هذه المقالة هو ما رواه الإمامان البخاري ومسلم - رحمهما الله تعالى - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي، الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاءء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني. فقال:اقرأ باسم ربـــك الــذي خلق، خلق الإنسان من عــلق اقـرأ وربك الأكرم، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى. ابن عم خديجة ، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم. قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي . وجاء في رواية أخرى : أن ورقة لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم، أومخرجي هم؟، قال له: نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء في رواية أخرى عند البخاري، أن الزهري قال: .. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا. فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي، غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. وهذا الحديث فيه من الألفاظ الغريبة التي تحتاج إلى شرح وبيان الآتي : لفظة الرؤيا وهي: على وزن فعلى كحبلى، يقال رأى رؤيا بلا تنوين، وجمعها: رؤى، وهي مختصة برؤيا المنام. أما لفظة الخلاء فمن الخلوة، يقال خلا الشيء يخلو خلوا، وخلوت به خلوة، وهو هنا بمعنى الاختلاء أو الخلاء الذي هو المكان الذي لاشيء به. وأما لفظة غار حراء: فالغار هو: النقب في الجبل، وهو الكهف، وحراء بكسر الحاء وفتح الراء ومد الألف، جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسارك إذا سرت إلى منى. ولفظة غطني في الحديث: يقول عنها الحافظ ابن حجر - رحمه الله - كأنه أراد ضمني وعصرني، والغط حبس النفس، ومنه غطه في الماء. ولفظة زملوني معناها: التغطية والتلفف في الثوب. والتزميل والتدثير: بمعنى واحد. وأما لفظة: الروع فهي: موضع الفزع من القلب. وأما جملة تحمل الكل: أي تعين الضعيف المنقطع، ويدخل في حمل الكل، الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، و الكل من لا يستقل بأمره. ومعنى جملة تكسب المعدوم: أي تعطي غيرك المال المعدوم تبرعا، وقيل تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من معدومات الفوائد ومكارم الأخلاق. وأما جملة - تعين على نوائب الحق: فهي كلمة جامعة لأفراد ما تقدم من مكارم الأخلاق ولما لم يتقدم. والنائبة هي: الحادثة والنازلة. ومعنى الكتاب العبراني: أي التوراة والإنجيل. ومعنى لفظة الناموس: صاحب سر الملك الذي لا يحضر إلا بخير، ولا يظهر إلا بالجميل، وسمي جبريل عليه السلام ناموسا، لأنه مخصوص بالوحي والغيب الذي لا يطلع عليهما أحد من الملائكة سواه. وأما لفظة جذع فهي كناية عن الشباب، كأنه يقول يا ليتني كنت شابا عند ظهورك لأنصرك وأعينك. أخي القارئ : وبعد أن شرحنا بعض الألفاظ الغريبة في هذا الحديث، تعال بنا لننظر في الفقه الدعوي الذي نستفيده منه، وهو على النحو التالي: أولا: أهمية التدرج في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى قال بعض العلماء -رحمهم الله تعالى -: إنما ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك، ويأتيه صريح النبوة بغته، فلا تحتملها قواه البشرية، فبدئ بتباشير الكرامة وصدق الرؤيا، ليأنس ويستعد لعظيم ما أريد به، حتى لا يأتيه الملك إلا بأمر عنده مقدماته. يقول الملا علي القاري - رحمه الله - عن هذه الأحوال إنها: مقتضى الأمور التدريجية في الأمور الدينية والدنيوية أهـ. فالتدرج أمر يجب على الداعية أن لا يغفل عنه، فالنفوس بحاجة إلى سياسة وخطوات حتى تغير ما اعتادت ونشأت عليه، فلا يفجأهم بكل ما عنده، أو يطالبهم مرة واحدة بكل شرائع الدين وأحكامه من دون أن يتدرج معهم من أمر إلى آخر، حتى يصل بهم إلى ما يريد من كمال واستقامة على دين الله تعالى. كما ينبغي للمسلم الداعية أيضا أن يتدرج مع نفسه في إعدادها، فهو: أولا يبدأ بطلب العلم، وتعلم هذا الدين ووحي الله سبحانه وتعالى المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يبدأ بدعوة الأهل والأقارب، ثم ينتقل إلى مجتمعه، وأهل المسجد والحي الذي يسكن فيه، ثم تكون دعوته على مستوى مدينته، وهكذا يتوسع وينتقل من مرحلة إلى أخرى بتدرج من الأدنى إلى الأعلى - دون ترك للأدنى - ومن الأصغر إلى الأكبر -دون ترك للأصغر- وهكذا في جميع حياته ومراحل دعوته. الثاني من الفقه الدعوي في هذا الحديث هو - أسلوب التشبيه وأهميته في توضيح وتقريب المعنى: ففي هذا الحديث تشبيه بين رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وفلق الصبح، وهذا يحتمل أمورا منها: الأول - أن يكون معناه وضوح الرؤيا حين يراها وهو قائم، كوضوح فلق الصبح، لا تخليط فيها كما في رؤيا غيره، بل يراها في النوم كما يراها في اليقظة. الثاني - أن يكون في وضوح مطابقة المناسبة لمثالها الواقع في اليقظة، أي لا شك أن ما وقع في اليقظة مثل المرئي في النوم كما لاشك في فلق الصبح، فمآل أمرها مثل فلق الصبح. وكل هذه الاحتمالات لقوة التشبيه ودقة اختياره، فتشبيه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، بفلق الصبح دون ضوء الشمس أو غيره من الأنوار، وإن كان أقوى، يظهر منه عدة فوائد منها: أولا - أن الرؤيا ابتداء أنوار النبوة فكانت كالفلق الذي هو ابتداء ضياء النهار. ثانيا- أنه نور تتبين به الأشياء من غير إذاية شعاع ولا حر. ثالثا - أنه أول تمييز نور الحق من ظلمة الباطل، كما أن الفلق أول بياض النهار من سواد الليل. رابعا - ومنها الإشارة إلى النعمة العظمى والرحمة الكبرى، وهي الإخراج من سواد الكفر والتخلص من حيرة الخبط في ظلمة الجهل إلى نور الإيمان والهداية إلى الصراط المستقيم. خامسا - التنبيه على شرف رؤياه صلى الله عليه وسلم والاعتناء بها، كما اعتني بهذا الوقت حتى جعل محلا لصلاة الفجر، والمواهب الجسام وناديا للملأ الأعلى، والملائكة الكرام صلوات الله وسلامه على نبينا وعلى سائر النبيين والملائكة أجمعين. فمن هنا يظهر لنا بوضوح أنه إذا قام الداعية إلى الله سبحانه وتعالى ، باستخدام أسلوب التشبيه الجيد الموفق، فإنه يصل إلى هدفه من تقريب المعنى والإقناع والحث على العمل به. إذن فعلى الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، أن لا يغفلوا عن هذا الأسلوب، وأن يولوه من الاهتمام والعناية الشيء الكثير. الثالث من الفقه الدعوي الذي نستفيده من هذا الحديث هو- أهمية الإعداد النفسي والروحي للداعية: فعن ذلك يقول أبو سليمان الخطابي - رحمه الله -: والخلوة يكون معها فراغ القلب، وهي معينة على الفكر، وقاطعة لدواعي الشغل، والبشر لا ينتقل عن طباعه، ولا يترك ما ألفه من عاداته إلا بالرياضة البليغة، والمعالجة الشديدة، فلطف الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في بدء أمره، فحبب إليه الخلوة، وقطعة عن مخالطة البشر ليتناسى المألوف من عاداتهم، ويستمر على هجران ما لا يحمد من أخلاقهم، وألزمه شعار التقوى، وأقامه مقام التعبد بين يديه ليخشع قلبه، وتلين عريكته لورود الوحي، فيجد فيه مرادا سهلا، ولا يصادفه حزنا وعرا أهـ. وأما عن الاختلاف في أفضلية الخلوة، والخلطة، يقول الملا على القاري (رحمه الله): والصحيح أن كل واحدة بشروطها المعتبرة في محلها هي الأفضل والأكمل للمصلحة المترتبة عليها أهـ. فـالخلوة بالعبادة وهجران الناس والابتعاد عنهم في بعض الأوقات - كآخر الليل، والاعتكاف في شهر رمضان - زاد للداعية يتقوى به نفسيا وروحيا، في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، وبه يصبر ويتغلب على ما يواجهه من عقبات ومشكلات في طريق الدعوة، حيث يزداد الإيمان بالله والثقة بالنفس والانطلاق بها فوق الماديات وصعوبة الحياة. وهذا هو شأن الأنبياء والصالحين - قدوة الدعاة إلى الله - إذ يقول الله سبحانه وتعالى: يا أيـها المزمل ? قم الليل إلا قليلا ? نصفه أو انقص منه قليلا ? أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ? إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا، وعن هذه الآيات يقول العلامة الآلوسي - رحمه الله -: فإنه - أي القرآن الكريم - لما فيه من التكاليف الشاقة، ثقيل على المكلفين، سيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه مأمور بتحملها وتحميلها للأمة، وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام، وتعليله الآتي، لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة والسلام من القيام، كأنه قيل أنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة، هذا بالنسبة إليها سهل، فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها أهـ. فلذا ينبغي لمن أراد أن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، التمرن على الدعوة ومشاقها، بالصلاة وقيام الليل وسائر العبادات، وخاصة منها ما يكون في السر والخلوة. الرابع من الفقه الدعوي في هذا الحديث هو - أهمية أخذ الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل: فتزود رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطعام والشراب في غار حراء، فيه دليل على أهمية أخذ الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى ،بل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للرجل الذي قال له عن ناقته: أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال:اعقلها وتوكل رواه الترمذي وحسنه الألباني. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند شرحه لحديث هذه المقالة: ويؤخذ منه إعداد الزاد للمختلي إذا كان بحيث يتعذر عليه تحصيله لبعد مكان اختلائه من البلد مثلا، وأن ذلك لا يقدح في التوكل وذلك لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم بعد حصول النبوة له بالرؤيا الصالحة أهـ. فمن ذلك يعلم أن التوكل على الله عز وجل، لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب، من التنظيم، والتخطيط، واستخدام الوسائل والأساليب المشروعة، والاحتياطات المناسبة، لأن التوكل يقوم على ركنين، وهما: اعتماد القلب على الله سبحانه وتعالى والثقة به، والأخذ بالأسباب المشروعة. الفقه الخامس: أهمية أن يقول الإنسان: لا أدري لما لا يعلمه: يقول العلامة السنوسي - رحمه الله - عند شرحه لهذا الحديث: وفيه أيضا بيان أن السنة في حق من سئل عما لم يعلم أن يصرح بعدم الدراية، ولا يأنف من ذلك، ولهذا قال الإمام مالك - رحمه الله -: جنة العالم لا أدري، فإذا أخطأها أصيبت منه المقاتل. لذا يجب على الداعية إلى الله إذا سئل عن شيء ،وهو لا يعلمه أن يقول: لا أدري، أو لا أعلم، فالقول على الله بغير علم من أخطر الأعمال وأضرها على الداعية والمدعو، فهي تصيب المقاتل، يقول صلى الله عليه وسلم ، في الحديث الذي رواه الإمام البخاري : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. إذن فعلى كل مسلم ، وخاصة من ينتسب للدعوة إلى الله ، ومن يتصدر للفتيا وإرشاد الناس ، أن يتنبه لخطورة هذه القضية وضررها العظيم، وأن لا يقول على الله بغير علم ، فقول لا أدري نصف العلم. السادس من الفقه الدعوي في هذا الحديث أن من أساليب الإقناع والتعليم التكرار ثلاث مرات: وهذا يستفاد من الحديث عندما غط جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقد انتزع العلماء - رحمهم الله - من ذلك فائدة دعوية، وهي: أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم، والإحضار بمجامع قلبه، وذلك بتكرار العلم ثلاث مرات، وخصوصا لما فيه مشقة، سواء كانت تلك المشقة في صعوبة العلم وأهميته - كعلم العقيدة - أو كانت في ضعف إدراك وفهم المتعلم - كالصبي - يقول الإمام النووي -رحمه الله- وكرره ثلاثا - أي غط الوحي - مبالغة في التنبيه أهـ . وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله -: ويؤخذ منه أي الغط ثلاث مرات أن من يريد التأكيد في أمر، وإيضاح البيان فيه أن يكرره ثلاثا أهـ. السابع من الفقه الدعوي في هذا الحديث هو عظم فضل العلم والتعليم وأهميتهما: فإن مما يبين أهمية وفضل العلم والتعليم، نزول أول آيات من القرآن الكريم فيها حض على القراءة والأمر بها، بل وكرر الأمر فيها بالقراءة تنبيها على التزام أقوى أسباب السعادة وهو العلم والتعليم، ثم ذكر القلم إبرازا لمكانته وأهميته في حفظ العلم وتبليغه، قال العلامة السنوسي - رحمه الله - نقلا عن بعض الشيوخ: مقصد السورة والله أعلم إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى اصطفاه بأن جعله إنسانا أولا، وفضله على بني جنسه من المصطفين وغيرهم بما خصه به من العلوم والمعارف الموجبة منزلة القرب، وأنه خلقه للانقطاع لعبادته، وضمن له ما يهمه من أمر عدوه، فقيل له في فاتحتها: اقرأ فنبه على أعلى أسباب القرب وهو العلم، وحض في خاتمتها على نتيجة العلم، وهو العمل المقرب إليه جل وعلا، فقيل له اسجد واقترب، وحاصله اعلم واعمل أهـ. الثامن من الفقه الدعوي في هذا الحديث هو التدرب على الاجتهاد في أمور الدعوة، وأخذها بقوة، والصبر عليها: فإن في غط جبريل عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن نيل معالي الأمور لا يكون إلا بالصبر على ما يكره الإنسان، وتحمل المشاق العظيمة، بحسب تلك المعالي، فهذه سنة الله سبحانه وتعالى في عباده ، إذ يقول الله عز وجل يا يحيى خذ الكتاب بقوة ويقول سبحانه وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون يقول العلامة العيني-رحمه الله- عن الحكمة في غط جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: ليظهر في ذلك الشدة والاجتهاد في الأمور، وأن يأخذ الكتاب بقوة، ويترك الأناة، فإنه أمر ليس بالهوينا ، وكرره ثلاثا مبالغة في التثبت أهـ. فطريق الدعوة شاق، والانتساب إليها من أعظم درجات المعالي ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين. فلذا ينبغي لمن يريد الالتحاق بركب الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، أن يبذل الجهد في تحصيل العلم النافع والدعوة إليه، وأخذ الأمور بقوة وحزم، والصبر على ما يلاقيه من أذى و متاعب. التاسع من الفقه الدعوي في هذا الحديث - وظيفة الزوجة الصالحة، وعظم أثرها على زوجها: فلقد قامت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهـا زوجة الداعية بعمل عظيم في نصرة الدعوة وتشجيع الزوج على الاستمرار في طريق الدعوة إلى الله جل وعلا، وتحمل المشاق والصعاب والمسؤوليات الدعوية، فمن هذا الحديث، وموقفها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءها فزعا خائفا، تظهر مجموعة من القضايا والفوائد الدعوية، التي ينبغي لكل داعية إلى الله سبحانه وتعالى، وخصوصا المرأة المسلمة أن تستفيد منها، وهي: أولا - مراعاة أحوال المدعو : فخديجة رضي الله عنهـا لم تبادر إلى الاستفسار والسؤال عما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحبيب الغالي بل سلكت مسلكا يدل على عظيم قدرها ورجاحة عقلها، حيث راعت الحالة النفسية التي هو فيها، وعمدت إلى إزالتها وتهدئتها بتزميله وتدفئته، ثم بعد ذلك عرفت منه الخبر، وتصرفت معه بالحكمة، يقول العلامة العيني رحمه الله - : إن الفازع لا ينبغي أن يسأل عن شيء حتى يزول عنه فزعه أهـ . فلذا ينبغي للداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يتنبه لهذا الأمر، فالمدعو إذا كان في حالة خوف وفزع يقوم بتهدئته وتطمينه، حتى يستطيع التعامل معه، وهو في نفسية مستقرة ثابتة تعي ما تقول وتفعل . ولذا قال الإمام مالك رحمه الله - : إن المذعور لايلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره أهـ. الأمر الثاني الذي نستفيده من موقف أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها هو جواز مدح المدعو للمصلحة: فالمدح إذا كان فيه مصلحة للمدعوين، لإزالة يأس أو خوف، أو قنوط، أو فيه تشجيع على طاعة، وثبات على بر، أو فيه حث لغيره للاقتداء والتأسي به، فإنه لا بأس به ، وليعلم أن ذلك لا يتعارض مع النهي الوارد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم : بحثو التراب في وجوه المداحين، يقول الإمام الكرماني رحمه الله عند شرحه لهذا الحديث: وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة تطرأ، وليس بمعارض لقوله صلى الله عليه وسلم: احثوا في وجوه المداحين التراب. إذ هو فيما مدح بباطل، أو يؤدي إلى باطل أهـ. وأما الإمام النووي رحمه الله تعالى - فإنه في شرحه لأحاديث النهي عن المدح من صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال: ذكر مسلم رحمه الله في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيحين بالمدح في الوجه، قال العلماء: وطريق الجمع بينها أن النهي محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح، وأما من لا يخاف عليه ذلك لكمال تقواه، ورسوخ عقله، ومعرفته، فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخير والازدياد منه، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به، كان مستحبا أهـ. الأمر الثالث الذي نستفيده من موقف خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها هو : استحباب تأنيس وتبشير من حصلت له مخافة ،أو أمر أهمه وأشغله، بذكر أسباب السلامة له منه: فإن هذا الأسلوب الدعوي الذي سلكته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهـا، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءها مرعوبا خائفا مما جرى له، فقالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم فيه درس للدعاة ليسلكوه مع من شابهه في الحالة والصورة، حيث ينبغي تأنيسه وتبشيره وذكر أسباب السلامة له فيه ، لأنه جاء يبحث عن علاج، فلا أقل من التأنيس والتبشير، لتهدئة نفسه، وإداخل الطمأنينة والسرور عليها. الفقه العاشر: أهمية استشارة أهل الخبرة، والرأي، والصلاح : إن الداعية إذا واجه مشكلة أو أمرا أهمه ينبغي له أن يكتمه في صدره، بل يستحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه كما نص على ذلك بعض أهل العلم . وذلك لغرضين، وهما : الأول - التنفيس عن النفس، فالمشكلة المكتومة تكبر في النفس وتنمو، وتأخذ أكبر من مكانها، وتشغل صاحبها أكثر مما تستحق، فإذا نفس عن نفسه بالحديث خف ما يجد في نفسه من هم وكدر، وخصوصا إذا كان المخبر ممن يشاركه ويحمل ويتفاعل معه ومع مشكلته، فإن هذا أمر مشاهد مدرك لمن جربه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بادر في هذا الأمر الذي أهمه وأفضى به إلى خديجة رضي الله عنها لتشاركه هذا الهم، وتسعى معه في علاجه،وإزالته. الغرض الثاني - الاستفادة من النصيحة التي سيقدمها له من استشاره، ولذا ينبغي له أن يحدث ويستشير من يثق بنصحه ورجاحة عقله، حتى لا يؤدي إلى نتائج عكسية من إشاعة هذا الأمر وهو يرغب في حصره في دائرة محدودة. إذ نجد في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حـدث خديـجة رضي الله عنها، وأخبـرها بـما جرى له وقد كانت في المنزلة الكبيرة من رجاحة العقل وحسن الرأي،يقول الإمام الكرماني -رحمه الله- عند شرحه لهذا الحديث: وفيه أبلغ دليل على كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها وقوة نفسها وعظم فقهها،وقد جمعت رضي الله عنهـا جميع أنواع أصول المكارم وأمهاتها فيه صلى الله عليه وسلم. أ هـ . الفقه الحادي عشر من هذا الحديث هو أن اتصاف الداعية بمكارم الأخلاق سبب لعون الله له: إن اتصاف الداعية وحرصه على مكارم الأخلاق وكثرة الخير والإحسان إلى الناس، سبب لعون الله له في دعوته، وانتشارها، ورد كيد خصومها، لذلك قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم ... حيث استدلت على قسمها بما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق وجميل الصفات وذكرت ضروبا منها، فخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء، والمكارم سبب لدفع المكاره، ومن كثر خيره حسنت عاقبته، ورجي له سلامة الدين والدنيا . الفقه الثاني عشر في هذا الحديث : هو أن من أداب الداعية احترام الكبير وتوقيره: فقول أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فيه تلطف منها واحترام وتوقير للكبير، مما يوجب إقباله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع فكره وكمال نصحه إذ جعلته عما له ولها، كما في رواية الإمام مسلم - رحمه الله - يقول الإمام الكرماني : وجعلته عما لرسول الله صلى الله عليه وسلم احتراما على سبيل التجوز أهـ. إذن فينبغي للداعية إلى الله تعالى، أن يتخلق بهذا الخلق الرفيع مع الكبار بتوقيرهم واحترامهم ومخاطبتهم بما يستحقون من الألفاظ والكلام الجميل، ليجد منهم الإقبال عليه والاستجابة لما يدعوهم له. الفقه الثالث عشر في هذا الحديث هو: أن من وسائل الدعوة تقديم الداعية بين يديه من يعرف به: يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - إن هذا الحديث: فيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسئول، وذلك مستفاد من قول خديجة: لورقة اسمع من ابن أخيك أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أبلغ في التعليم أهـ. فلذا ينبغي للداعية إلى الله تعالى، إذا أراد أن يتحدث مع قوم لا يعرفونه، أو إذا أراد أن يتكلم في موضوع مهم، أن يستعين بمن يعرف به، أو بالموضوع الذي يريد أن يتكلم عنه حتى تكون القلوب متشوقة له ولما سوف يقول. الرابع عشر من الفقه الدعوي في هذا الحديث أن سماع القضية من صاحبها أوقع أثرا في زيادة فهم السامع: فالداعية إذا أراد أن يتحدث في موضوع، وتطرق لقضية باشرها غيره ثم ترك صاحب القضية ليتحدث عنها، فإنه يكون أوقع أثرا على المدعوين، وأقوى في زيادة فهمهم للموضوع، يقول العلامة السنوسي - رحمه الله - عند شرحه لهذا الحديث : فقرائن الأحوال عند سماع القضية من صاحبها لها أثر عظيم في زيادة فهم السامع، ولهذا رأينا بعض شيوخنا الأكابر - رحمهم الله - يزجر من ينقل له سؤال سائل مع حضوره. أهـ الخامس عشر من الفقه الدعوي في هذا الحديث هو - حتمية وجود عداء للدعوة وصاحبها: فمن قول ورقة رضي الله عنه: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي. يتبين لنا أمر مهم جدا، وهو أن الداعية إلى الله سبحانه، لابد أن يواجهه أعداء وخصوما، عندما يزاول عمل الدعوة، ويصدع بها بين الناس، فالعداوة معلم من معالم طريـق الـدعوة يقـول الله تعالى وكـذلك جعلنـا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ويقول الله عز وجل وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا الفقه السادس عشر من هذا الحديث هو أهمية مرحلة الشباب في نصرة الدعوة والجهاد ، وخاصة مع وجود أهل الخبرة وطول التجربة: إن في قول ورقة رضي الله عنه - يا ليتني فيها جذعا. دلالة على أهمية الشباب في نصرة الدعوة وأهلها ، يقول العلامة ابن الأثير - رحمه الله - : الجذع هاهنا: كناية عن الشباب، يقول يا ليتني كنت شابا عند ظهورك لأنصرك وأعينك. أهـ . وعند قول ورقة: وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. يقول العلامة السنوسي رحمه الله : كمال النصرة إنما يكون باجتماع الأمرين، حسن المعرفة بالأمور لطول التجربة وممارسة الخطوب، وقوة الجسد، لتقع النكاية بها في الحروب. ورب رأي أنفع من جيش عظيم كل منهم قوي شجاع، وقد حصل لورقة الأول من الأمرين، فتمنى أن يحصل الثاني منها. أهـ. فعلى الشباب من الدعاة إلى الله، الاستفادة من رأي أهل الخبرة وطول التجربة، كما أنه على أهل الخبرة وطول التجربة الاستفادة من الشباب في الدعوة إلى الله وخدمة هذا الدين. فإنه باجتماع الأمرين يحصل الخير الكثير، والنصر العظيم. الفقه السابع عشر الذي نستفيده من هذا الحديث هو- فرح الداعية وسعادته بالدعوة وما يلاقيه فيها: فإن من صفات الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، الفرح والسرور والسعادة بما هو فيه من عمل عظيم، فالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والانتساب إليها ، والاتباع والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، من الأعمال التي يفتخر بها المسلم وهو يردد قول الله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وقول الله عز وجل قـل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون . فرسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بالنبوة والدعوة إلى الله جل وعلا، مع ما يترتب على ذلك من تكليف ومشقة وامتحان وابتلاء، يقول العلامة السنوسي رحمه الله إن بعض الشيوخ قال: ويحتمل عندي أن رجف فؤاده صلى الله عليه وسلم إنما كان فرحا وسرورا بما أوتي من الوحي يقظة، وما علم من العلم، وما استشعر من إعطاء الله سبحانه له ما لم يعط بشرا. والفرح قد يرعد كما يرعد الفزع، ولا يرد هذا قوله: لقد خشيت على نفسي لأنه قد يخشى أيضا على النفس من شدة الفرح . . . ويدل على عظيم سروره صلى الله عليه وسلم وابتهاجه بما رأى، ما كان يفعله بنفسه صلى الله عليه وسلم عند فترة الوحي وغيبة جبريل عليه السلام عنه. أهـ . هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وس