حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة (حقوق تتعلق بسائر الناس)

يكمل فضيلة الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) ما كتبه حول الحقوق التي دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة ويتناول هنا حق ولاة الأمر والرعية وحق الجيران وحقوق المسلمين وغير المسلمين . يقول رحمه الله الحق السابع : حق الولاة والرعية الولاة هم الذين يتولون أمور المسلمين سواء كانت الولاية عامة: كالرئيس الأعلى في الدولة، أم خاصة: كالرئيس على إدارة معينة أو عمل معين، وكل هؤلاء لهم حق يجب القيام به على رعيتهم ولرعيتهم حق عليهم كذلك. فحقوق الرعية على الولاة: أن يقوموا بالأمانة التي حملهم الله إياها، وألزمهم القيام بها من النصح للرعية والسير بها على النهج القويم الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة، وذلك باتباع سبيل المؤمنين، وهي الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فيها السعادة؛ لهم ولرعيتهم، ومن تحت أيديهم، وهي أبلغ شيء يكون به رضا الرعية عن رعاتهم، والارتباط بينهم، والخضوع لأوامرهم وحفظ الأمانة فيما يولونه إياهم، فإن من اتقى الله اتقاه الناس، ومن أرضى الله كفاه الله مؤونة الناس وأرضاهم عنه؛ لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء. وأما حقوق الولاة على الرعية فهي: النصح لهم فيما يتولاه الإنسان من أمورهم، وتذكيرهم إذا غفلوا، والدعاء لهم إذا مالوا عن الحق، وامتثال أمرهم في غير معصية الله؛ لأن في ذلك قوام الأمر وانتظامه، وفي مخالفتهم وعصيانهم انتشار الفوضى وفساد الأمور، ولذلك أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر، فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء، الآية:59) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة متفق عليه. وقال عبد الله بن عمر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه ما من نبي بعثه الله إلا كان عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة يرقق بعضها بعضا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاءه آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر (رواه مسلم) وسأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ثم سأله مرة ثانية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم (رواه مسلم) ومن حقوق الولاة على الرعية: مساعدة الرعية لولاتهم في مهماتهم بحيث يكونون عونا لهم على تنفيذ الأمر الموكول إليهم، وأن يعرف كل واحد دوره ومسئوليته في المجتمع، حتى تسير الأمور على الوجه المطلوب، فإن الولاة إذا لم تساعدهم الرعية على مسؤولياتهم لم تأت على الوجه المطلوب. الحق الثامن: حق الجيران الجار هو القريب منك في المنزل، وله حق كبير عليك، فإن كان قريبا منك في النسب وهو مسلم فله ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام. وإن كان مسلما وليس بقريب في النسب فله حقان: حق الجوار، وحق القرابة. وإن كان بعيدا غير مسلم فله حق واحد: حق الجوار (الحديث رواه أبو بكر البزار بسنده عن الحسن عن جابر بن عبد الله ذكره عنه ابن كثير في تفسيره للآية 36 من سورة النساء) قال تعالى وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى (سورة النساء، الآية:36) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه متفق عليه. فمن حقوق الجار على جاره: أن يحسن إليه بما استطاع من المال والجاه والنفع، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الجيران عند الله خيرهم لجاره رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب وقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره رواه مسلم وقال أيضا: إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك رواه مسلم ومن الإحسان إلى الجار تقديم الهدايا إليه في المناسبات، فإن الهدية تجلب المودة وتزيل العداوة. ومن حقوق الجار على جاره: أن يكف عنه الأذى القولي والفعلي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلمك والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قالوا: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه رواه البخاري وفي رواية: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه. والبوائق: الشرور، فمن لا يأمن جاره شره فليس بمؤمن ولا يدخل الجنة. وكثير من الناس الآن لا يهتمون بحق الجوار، ولا يأمن جيرانهم من شرورهم، فتراهم دائما في نزاع معهم وشقاق واعتداء على الحقوق، وإيذاء بالقول أو بالفعل، وكل هذا مخالف لما أمر الله ورسوله، وموجب لتفكك المسلمين وتباعد قلوبهم، وإسقاط بعضهم حرمة بعض. الحق التاسع: حقوق المسلمين عموما وهذه الحقوق كثيرة جدا فمنها: ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه رواه مسلم ففي هذا الحديث بيان عدة حقوق بين المسلمين: الحق الأول: السلام: فالسلام سنة مؤكدة، وهو من أسباب تآلف المسلمين وتوادهم، كما هو مشاهد، وكما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم رواه مسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام ويسلم على الصبيان إذا مر بهم. والسنة: أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، ولكن إذا لم يقم بالسنة من هو أولى بها فليقم بها الآخر؛ لئلا يضيع السلام فإذا لم يسلم الصغير فليسلم الكبير، وإذا لم يسلم القليل فليسلم الكثير ليحوز الأجر. قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار رواه البخاري وإذا كان بدء السلام سنة فإن رده فرض كفاية إذا قام به من يكفي أجزأ عن الباقين. فإذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ عن الباقين. قال الله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها (سورة النساء، الآية: 86) فلا يكفي في رد السلام أن يقول: أهلا وسهلا فقط؛ لأنها ليست أحسن منه ولا مثله، فإذا قال: السلام عليكم، فليقل: عليكم السلام. وإذا قال: أهلا فليقل: أهلا بمثل، وإن زاد تحية فهو أفضل. الحق الثاني: إذا دعاك إلى منزله لتناول طعام أو غيره فأجبه، والإجابة إلى الدعوة سنة مؤكدة؛ لما فيها من جبر قلب الداعي، وجلب المودة والألفة، ويستثنى من ذلك وليمة العرس، فإن الإجابة إلى الدعوة واجبة بشروط معروفة وهي: أن تكون في اليوم الأول، وأن يكون الداعي مسلما، وان لا يحرم هجره، وان يخص بالدعوة، وان يكون كسبه حلالا، وان لا يكون هناك منكر لا يقدر على إزالته. انظر (السلسبيل في معرفة الدليل، ص735) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله رواه البخاري ومسلم ولعل قوله صلى الله عليه وسلم إذا دعاك فأجبه يشمل حتى الدعوة لمساعدته ومعاونته، فإنك مأمور بإجابته، فإذا دعاك لتعينه في حمل شيء أو إلقائه، أو نحو ذلك، فإنك مأمور بمساعدته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا رواه البخاري ومسلم الحق الثالث: إذا استنصحك فانصحه، يعني إذا جاء إليك يطلب نصيحتك له في شيء فانصحه؛ لأن هذا من الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم رواه مسلم أما إذا لم يأت إليك يطلب النصيحة فإن كان عليه ضرر أو إثم فيما سيقدم عليه وجب عليك أن تنصحه وإن لم يأت إليك؛ لأن هذا من إزالة الضرر والمنكر عن المسلمين، وإن كان لا ضرر عليه فيما سيفعل ولا إثم، ولكنك ترى أن غيره أنفع فإنه لا يجب عليك أن تقول له شيئا إلا أن يستنصحك فتلزم النصيحة. الحق الرابع: إذا عطس فحمد الله فشمته، أي قل له: يرحمك الله، شكرا له على حمده لربه عند العطاس، أما إذا عطس ولم يحمد الله فإنه لا حق له فلا يشمت؛ لأنه لم يحمد الله فكان جزاؤه أن لا يشمت. وتشميت العاطس إذا حمد فرض، ويجب عليه الرد، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، وإذا استمر معه العطاس، وشمته ثلاثا. فقل له في الرابعة: عافاك الله بدلا من قولك يرحمك الله. الحق الخامس: إذا مرض فعده، وعيادة المريض زيارته، وهي حق له على إخوانه المسلمين، فيجب عليهم القيام بها وكلما كان للمريض حق عليك من قرابة أو صحبة أو جوار كانت عيادته آكد. والعيادة بحسب حال المريض وبحسب حال المرض، فقد تتطلب الحال كثرة التردد إليه، وقد تتطلب الحال قلة التردد إليه، فالأولى مراعاة الأحوال، والسنة لمن عاد مريضا أن يسأل عن حاله، ويدعو له، ويفتح له باب الفرج والرجاء، فإن ذلك من أكبر أسباب الصحة والشفاء، وينبغي أن يذكره التوبة بأسلوب لا يروعه، فيقول له مثلا: إن في مرضك هذا تكتسب خيرا فإن المرض يكفر الله به الخطايا، ويمحو به السيئات، ولعلك تكسب بانحباسك أجرا كثيرا، بكثرة الذكر والاستغفار والدعاء. الحق السادس: إذا مات فاتبعه، فاتباع الجنازة من حقوق المسلم على أخيه، وفيه أجر كبير، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من تبع الجنازة حتى يصلى عليها، فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قيل وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين رواه البخاري ومسلم سابعا: ومن حقوق المسلم على المسلم: كف الأذى عنه، فإن في إيذاء المسلمين إثما عظيما، قال الله تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (سورة الأحزاب الآية:58) والغالب أن من تسلط على أخيه بأذى فإن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه رواه مسلم وحقوق المسلم على المسلم كثيرة، ولكن يمكن أن يكون المعنى الجامع لها هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلمن فإنه متى قام بمقتضى هذه الأخوة اجتهد أن يتحرى له الخير كله، وأن يجتنب كل ما يضره. الحق العاشر: حق غير المسلمين غير المسلمين يشمل جميع الكافرين وهم أصناف أربعة: حربيون، ومستأمنون- بكسر الميم- ومعاهدون، وذميون. فأما الحربيون: فليس لهم علينا حق من حماية أو رعاية. وأما المستأمنون: فلهم علينا حق الحماية في الوقت والمكان المحددين لتأمينهم، لقول الله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه (سورة التوبة الآية6) وأما المعاهدون: فلهم علينا الوفاء بعهدهم إلى المدة التي جرى الاتفاق عليها بيننا وبينهم ما داموا مستقيمين لنا على العهد لم ينقصوا شيئا، ولم يعينوا أحدا علينا، ولم يطعنوا في ديننا، لقول الله تعالى إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (سورة التوبة، الآية: 4) وقوله وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم (سورة التوبة، الآية:12) وأما الذميون فهم أكثر هؤلاء الأصناف حقوقا فيما لهم وعليهم، لأنهم يعيشون في بلاد المسلمين، وتحت حمايتهم ورعايتهم بالجزية التي يبذلونها. فيجب على ولي أمر المسلمين أن يحكم فيهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض، وأن يقيم الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه. ويجب عليه حمايتهم وكف الأذى عنهم. ويجب أن يتميزوا عن المسلمين في اللباس، وان لا يظهروا شيئا منكرا في الإسلام أو شيئا من شعائر دينهم، كالناقوس والصليب، وأحكام أهل الذمة موجودة في كتب أهل العلم لا نطيل بها هنا (انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم) والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.