سورة القصص آيات باهرات

ذكر الله سبحانه وتعالى في أول سورة القصص بيانا عن نشأة موسى، عليه السلام، وحاله قبل الرسالة، وأتبع ذلك بيانا عن رسالته إلى أن أنجاه، ومن آمن معه، وأهلك أعداءه ليكون ذلك القصص في جملته آية على نبوة محمد، عليه الصلاة والسلام، وصدقه فيما أنزل عليه من الوحي، ودعا إليه أمته، كما يرشدنا إلى ذلك، بقوله تعالى في مطلع السورة: تلك آيات الكتاب المبين. نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (سورة القصص، الآيتان: 2،3) وقوله (تعالى) عند انتهاء ما أراد ذكره من القصة: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (سورة القصص، الآية: 46) أما ما ذكر في هذه السورة من تفاصيل القصة فآيات بينات تدل على كمال رعاية الله لموسى، عليه الصلاة والسلام، في جميع شئونه: في رضاعته، وكفالته، وعلمه وحكمته، وإعداده بالقوة، والأخلاق الفاضلة، من نصرة المظلوم، وإعانة الضعيف، وعزة النفس، وصدق التوكل على الله، والأمانة، وحسن المعاملة، ليكون رسولا ينقذ به (سبحانه) الشعوب من الاستعباد، ويخلصها من الطغيان، والاستبداد، ويهدي به القلوب، وينير به البصائر، وإليك شيئا من تفصيلها ترى منه ما ذكرت: 1- قدم الله بين يدي هذه القصة جملة من الآيات بين فيها سنته العادلة، وحكمته البالغة، في القضاء على من علا في الأرض، وأفسد فيها، ومنه على المستضعفين، والتمكين لهم، وإدالتهم من عدوهم، فضلا منه ورحمة، والله عليم حكيم. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا سورة الفتح، الآية: 23 ثم فصل ذلك فيما ذكره بعد من القصة. 2- ولد موسى بن عمران، عليه السلام، في مصر، وكان ملكها إذ ذاك جبارا جائرا، يقتل ذكران بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم، فأوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه من فرعون وجنوده، ووعدها وعدا صدقا أن يرده إليها، ففعلت، وأنجاه الله، والتقطه آل فرعون، وتداولوا الرأي فيه. وعند ذلك مر موسى بطور آخر من أطوار الخطر، ثم كتب الله أن ينتهي بهم التفكير في أمره إلى أن يتخذه فرعون ولدا، وأن ينشأ في بيت ملك يتربى فيه على العزة، وشدة البأس، وقوة العزم، والأخذ بالحزم، ولا يصاب بما أصيب به قومه من العذاب، والذل، والهوان. وبذلك يصلح لحمل أعباء الرسالة، ومواجهة فرعون في جبروته وطغيانه ( انظر الآية 38 من سورة القصص وآية 34 من سورة النازعات) ثم أولاه الله نعمة أخرى، فكتب عليه ألا يرضع إلا من أمه، حتى اضطر فرعون ومن معه إلى أن يردوه إلى أمه، وهم لا يشعرون، وبهذا التدبير الحكيم، واللطف الخفي، أنجز الله لأم موسى وعده، فرجع إليها ولدها لتكفله، ويتمتع بعطفها، وينعم بحنانها، وتقر به عيناها ولا تحزن، ولتعلم أن وعد الله حق. 3- هذه الحلقة الأولى من حياة موسى كلها عبر وآيات: - منها: أن الله (سبحانه وتعالى) جعل نجاته مما أصاب غيره من أبناء قومه فيما يراه الناس دمارا، وإلقاء بالنفس إلى التهلكة. وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني (سورة القصص، الآية: 7) - ومنها: أنه (سبحانه) كتب لموسى الحياة السعيدة في بيت من يخشى عليه منه، فعاش بين أظهرهم عيشة الملوك. وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (سورة القصص، الآية: 9) - ومنها: أن الله حرم عليه تحريما كونيا أن يرضع من امرأة سوى أمه، فكان ذلك فيما يرى الناس، بلاء أصابه، وهو في الأمر نفسه كمال اللطف من الله، والرحمة بموسى، ليرجعه إلى أمه، وهم لا يشعرون، فاجتمع له إلى السلامة، والنجاة، عطف الأمهات وعز الملوك. وحرمنا عليه المراضع من قبل فقال هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون? فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (سورة القصص، الآيتان: 12،13) - ومنها: حفظ الله (سبحانه) على موسى صفاء روحه، وسلامة فطرته، فمع أنه عاش في بيت ملك، وأوساط ظلم، وطغيان فإنه لم يتأثر بما تأثر به من قضى أيامه الأولى من حياته في بيئة استشرى فيها الفساد، وطبعت بطابع الجبروت، والاستبداد، ولم يصب بما يصاب به أبناء الملوك، ومن يتقلب في النعمة، ورغد العيش حين تهمل تربيته، من جهل واستهتار، أو رخاوة وخلاعة ومجون، بل صانه الله من كل ما يشينه، وآتاه العلم النافع، والحكمة البالغة، وسداد الرأي، كما حفظ عليه نعمته من قبل في بدنه. ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (سورة القصص، الآية: 14) 4- جبل الله نبيه موسى على الحزم والأخذ بقوة في نصرة المظلوم، والضرب على يد الظالم، وذلك يتجلى في الخصومة التي كانت بين إسرائيلي وفرعوني، فإن موسى لم يلبث أن أغاث من استغاث به، فوكز القبطي، فقضى عليه، إقامة للعدل، وإنصافا للمظلوم، كما طبعه على الرفق بالضعيف، والعطف عليه، ومد يد المعونة إليه، ويتجلى ذلك منه في قوله (تعالى): ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير? فسقى لهما... الآية (سورة القصص، الآيتان: 23،24) فجمع له بين شدة البطش على الظالمين، وكمال الرفق بالمستضعفين. 5- كان من آثار عناية الله بموسى ورعايته له أن قوى فيه الوعي الديني، واستحكمت الصلة بينه وبين ربه، فأحب ما يحبه الله من العدل والإنصاف، وكره ما يبغضه الله من الظلم والعدوان، لذلك فزع إلى ربه، واعترف بظلمه لنفسه، حينما قضى القبطي نحبه من وكزته، وأسرع إلى الاستغفار لله (تعالى) من ذنبه. قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم. قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين (سورة القصص، الآيتان: 16،17) وفاض قلبه إيمانا بالله، فعظمت ثقته، وتوكله عليه، لذلك قصد إليه وحده في غربته وحيرته رجاء أن يهديه سواء السبيل. ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل (سورة القصص، الآية: 22) ولما استبدت به الحاجة وأخذ منه الجوع مأخذه توجه إلى ربه، فسأله من فضله، فأبت عليه عزة نفسه أن يشكو حاجته لغيره، أو يعرض لمن سقا لهما بطلب الأجر. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير (سورة القصص، الآية: 24) وقد استجاب الله دعاءه، وهيأ له بيئة صالحة يحيا فيها حياة طيبة، فقد عرض عليه شعيب لما عرفه عنه من القوة والأمانة أن يزوجه إحدى ابنتيه على أن يرعى له الغنم ثماني حجج، وإن أتم عشر سنوات كان ذلك مكرمة منه، فالتزم موسى بذلك، ولم يمنعه ما كان فيه من رغد العيش، وحياة الملوك أن يكون أجيرا، يأكل ويتزوج من كسب يده، وأشهد ربه على ذلك: قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل (سورة القصص، الآية: 28) وقد ثبت أنه أتم أبعد الأجلين. - فهذه سلسلة من حياة موسى قبل الرسالة، تضمنت شيئا مما حباه الله به من العلم، والحكمة، والمروءة، والنجدة، ونصرة المظلوم، والأخذ على يد الظالم، والعطف على الضعيف، وقوة الإيمان بالله، والصدق في الالتجاء إليه، والتوكل عليه، والتواضع مع عزة النفس، وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي يعد بها الله من يختاره للرسالة، وقيادة الأمم. 6- طلب موسى من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون، فأرسله معه ليكون عونا له في الحجاج، وخاف أن يبطش بهما فرعون وجنوده، وأن يقتلوا موسى بالقبطي الذي سبق أن قتله، فقال الله له: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى (سورة طه، الآية: 46) وجعل لهما سلطانا من الآيات تقوم به الحجة، وتنخلع به قلوب الجبارين، وتمتلئ بالوهن والضعف، وبذلك يثبت موسى في ميدان الدعوة إلى الله، فبات واثقا بربه مؤمنا بما يدعو إليه من الهدى والنور، وتجلى في حجاجه صولة الحق، وأحس من نفسه بالعزة والقوة، وبذلك ذل جبروت فرعون، وتلاشى عنده تألهه وتعاليه، ولم يعد يملك لموسى من الكيد إلا أن يرعد ويبرق، ويموه ويخدع. وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد (سورة غافر، الآية: 26) ولم يكن ليأخذ على يديه أحد، ولا هناك من الأسباب الداعية ما يمنعه أن يبطش بموسى، فإن الدولة دولته، والجنود جنوده، لكنها عناية الله برسوله، وما آتاه من آيات، وسلطان قد بهر فرعون، وقطع نياط قلبه، ولم يملك (أيضا) ملأ فرعون سوى أن يثيروا حفيظته، ويغروه بموسى ومن آمن به: وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون (سورة الأعراف، الآية: 127) - أفلا يرى العاقل أن موسى وهو وحيد غريب، وقومه مستعبدون، لم يقف هذا الموقف من فرعون وملئه، والدولة دولتهم إلا وهو مؤيد من ربه، صادق في دعوته ن وأن هذا هو الحق المبين. 7- جرت سنة الله العادلة أن يفتح بالحق بين رسله، ومن آمن بهم من الأمم، ومن سار سيرهم، ويجعلهم خلفاء الأرض، ويهلك من كذب بهم، وانحرف عن طريقهم ليكون ذلك من آيات الله التي يفصل بها بين الصادق والكاذب، والحق والباطل، والشريعة العادلة، والقوانين الجائرة. إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (سورة غافر، الآية: 51) وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (سورة القصص، الآية: 37) قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون (سورة الأعراف، الآيتان: 128، 129) وهذا هو ما انتهى به أمر موسى وقومه مع فرعون وملئه. فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (سورة القصص، الآية: 40) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم. وأزلفنا ثم الآخرين. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثم أغرقنا الآخرين (سورة الشعراء، الآيات: 63- 66) فانظر كيف اتحدت وسيلة النجاة للأولياء، والهلاك للأعداء، إنها آية الله الباهرة، وقدرته القاهرة، لقد أهلك فرعون وجنوده بما جعله طريقا لنجاة موسى وقومه، هذا إلى جانب انفلاق البحر، وتماسك مائه، وخروجه عن طريق السيلان بضربة عصا. - وفي قصص موسى من الآيات سوى ذلك ما يبهر العقول، ويأخذ بمجامع القلوب، ولا يدع قولا لقائل إلا من سفه نفسه، وسعى في هلاكها، وذلك قوله: - ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون? فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون (سورة الأعراف، الآيتان: 130،131)