تصنيف الناس بين الظن واليقين( وفادة التصنيف وواجب المسلم نحوه)

قال الله تعالى: إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( النور آية 15) الحمد لله رب العالمين. اللهم إياك نعبد، وإياك نستعين، وعليك نتوكل، وإليك نسعى ونحفد، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك. أما بعد: فأنتخب من مزدحم الحياة: العلماء الهداة في مثالهم: العالم العامل بعلمه في خاصة نفسه، ونصحه لله، ولرسوله، ولإمامه، ولعموم أهل الإسلام، فما إن يذكر اسم ذلك العالم إلا ويرفع في العلماء العاملين، فعلمه وعمله متلازمان أبدا، كالشاخص والظل سواء، والله يمن على من يشاء. فأنتصر له حسبة لله، لا دفاعا عن شخصه فحسب، بل وعن حرمات علماء المسلمين ومنهم دعاتهم، ورجال الحسبة فيهم ؛ إذ بدا لقاء ما يحملونه من الهدى والخير والبيان: اختراق: ظاهره التجريح لأعراضهم بالوقيعة فيهم، وفري الجراحين في أعراضهم، وفي دعوتهم، ولما صنعه سعاة الفتنة من وقائع الافتراء، وإلصاق التهم، وألوان الأذى، ورمي الفتيل هنا وهناك، مما لا يخفى في كل مكان وصلته أصواتهم البغيضة. ولعظم الجناية على العلماء، صار من المعقود في أصول الاعتقاد: ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل . (وعلى نحوه كلمات حسان لعدد من علماء الأمة الهداة في العلم والدين) لذلك، ولما لهم على العامة والخاصة من فضل في تعليم الناس الخير، ونشر السنن، وإماتة الأهواء والبدع، فهم قد أوتوا الحكمة يقضون بها، ويعلمونها الناس، ولم يتخلفوا في كهوف القعدة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم وقالوا: هذا مغتسل بارد وشراب ، وكأنما عناهم شوقي بقوله: وقد يموت كثير لا تحسهم كأنهم من هوان الخطب ما وجدوا بل نزلوا ميدان الكفاح، وساحة التبصير بالدين، وهم الذين ينبئون عن مقياس العظمة العصامية التاريخية في أشباحهم المغمورة، لا العظمة العظامية الموهومة، كما لبعض الرتب، والشارات، المفرغين لأنفسهم عن قرن العلم بالعمل. إن القيم، والأقدار، وآثارها الحسان، الممتدة على مسارب الزمن لا تقوم بالجاه، والمنصب، والمال، والشهرة، وكيل المدائح، والألقاب، وإنما قوامها وتقويمها بالفضل، والجهاد، وربط العلم بالعمل، مع نبل نفس، أدب جم، وحسن سمت، فهذه، وأمثالها هي التي توزن بها الرجال والأعمال. وإلى هذا الطراز المبارك تشخص أبصار العالم، ولكل نبأ مستقر. لهذا كله، صار من الواجب على إخوانهم، الذب عن حرماتهم وأعراضهم بكلمات تجلو صدأ ما ألصقه المنشقون بهم من الثرثرة، وتكتم صدى صياحهم في وجه الحق. وإيضاح السبيل الآمن الرشد، العدل الوسط. فالآن علينا البيان بألفاظ مقدودة على قدودها بلا طول، ولا قصر، وعلينا وعليك الإنصاف بلا وكس ولا شطط. فها أنا (1) أقول عن هذه الظاهرة تصنيف الناس في واقعها، وطرقها، ودوافعها، وآثارها، وسبل علاجها، والقضاء عليها بما لاح لي: ? إن كشف الأهواء، والبدع المضللة، ونقد المقالات المخالفة للكتاب، والسنة، وتعرية الدعاة إليها، وهجرهم، وتحذير الناس منهم، وإقصاءهم، والبراءة من فعلاتهم، سنة ماضية في تاريخ المسلمين في إطار أهل السنة، معتمدين شرطي النقد: العلم وسلامة القصد. ? العلم بثبوت البينة الشرعية، والأدلة اليقينية على المدعى به في مواجهة أهل الهوى والبدعة، ودعاة الضلالة والفتنة، وإلا كان الناقد ممن يقفو ما ليس له به علم. وهذا عين البهت والإثم. ? ويرون بالاتفاق أن هذا الواجب من تمام النصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين، وعامتهم. وهذا شرط القصد لوجه الله تعالى، وإلا كان الناقد بمنزلة من يقاتل حمية ورياء. وهو من مدارك الشرك في القصد. وهذا من الوضوح بمكان مكين لمن نظر في نصوص الوحيين الشريفين، وسير الأئمة الهداة في العلم والدين. وفادة التصنيف: ? ولا يلتبس هذا الأصل الإسلامي بما تراه مع بلج الصبح، وفي غسق الليل من ظهور ضمير أسود، وافد من كل فج استعبد نفوسا بضراوة، أراه: تصنيف الناس وظاهرة عجيب نفوذها هي: رمز الجراحين أو: مرض التشكيك وعدم الثقة حمله فئام غلاظ من الناس يعبدون الله على حرف، فألقوا جلباب الحياء، وشغلوا به أغرارا التبس عليهم الأمر فضلوا، وأضلوا، فلبس الجميع أثواب الجرح والتعديل، وتدثروا بشهوة التجريح، ونسج الأحاديث، والتعلق بخيوط الأوهام، فبهذه الوسائل ركبوا ثبج التصنيف للآخرين ؛ للتشهير، والتنفير، والصد عن سواء السبيل. ومن هذا لمنطلق الواهي، غمسوا ألسنتهم في ركام من الأوهام والآثام، ثم بسطوها بإصدار الأحكام عليهم، والتشكيك فيهم، وخدشهم، وإلصاق التهم بهم، وطمس محاسنهم، والتشهير بهم، وتوزيعهم أشتاتا وعزين: في عقائدهم، وسلوكهم، ودواخل أعمالهم، وخلجات قلوبهم، وتفسير مقاصدهم، ونياتهم، كل ذلك، وأضعاف ذلك مما هنالك من الويلات، يجري على طرفي التصنيف: الديني واللاديني. فترى وتسمع رمي ذاك، أو هذا بأنه: خارجي. معتزلي. أشعري. طرقي. إخواني. تبليغي. مقلد متعصب. متطرف. متزمت. رجعي. أصولي. وفي السلوك: مداهن. مراء. من علماء السلطان. من علماء الوضوء والغسل. ومن طرف لا ديني: ماسوني. علماني. شيوعي. اشتراكي. بعثي. قومي. عميل. ?وإن نقبوا في البلاد، وفتشوا عنه العباد، ولم يجدوا عليه أي عثرة، أو زلة، تصيدوا له العثرات، وأوجدوا له الزلات، مبنية على شبه واهية، وألفاظ محتملة. ? أما إن أفلست جهودهم من كل هذا رموه بالأخرى فقالوا: متستر، محايد. إلى غير ذلك من ضروب تطاول سعاة الفتنة والتفرق، وتمزيق الشمل والتقطع. ? وقد جرت هذه الظاهرة إلى الهلكة في ظاهرة أخرى من كثرة التساؤلات المتجنية - مع بسمة خبيثة - عن فلان، وعلان، والإيغال بالدخول في نيته، وقصده، فإذا رأوا شيخا ثنى ركبتيه للدرس، ولم يجدوا عليه أي ملحظ، دخلوا في نيته، وكيفوا حاله: ليبني نفسه، لسان حاله يقول: أنا ابن من فاعرفوني. ليتقمص شخصية الكبار. يترصد الزعامة. ?وإن ترفقوا، وغلبهم الورع، قالوا: محترف بالعلم. ? وإن تورع الجراح عن الجرح بالعبارة، أو استنفدها، أو أراد ما هو أكثر إيغالا بالجرح، سلك طريق الجرح بالإشارة، أو الحركة بما يكون أخبث، وأكثر إقذاعا. مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر. أو يسأل عنه، فيشير إلى فمه، أو لسانه معبرا عن أنه: كذاب، أو بذيء. ومثل: تقليب اليد، أو نفضها. إلى غير ذلك من أساليب التوهين بالإشارة، أو التحريك. ألا شلت تلك اليمين عند حركة التوهين ظلما. وصدعت تلك الجبين عن تجعيدها للتوهين ظلما. ويا ليت بنسعة من جلد، تربط بها تلك الشفة عند تعويجها للتوهين ظلما. ولله در أبي العباس النميري، شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) إذ وضع النصال على النصال في كشف مكنونات تصرفات الجراحين ظلما فقال: (في مجموع الفتاوى 28237-237) فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون ؛ لكن يرى لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة، وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم. ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى. تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله. ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد؛ ولكن فيه كيت وكيت. وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله؛ وإنما قصده استنقاصه، وهضما لجنابه. ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقا، وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه. ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه، فيقول: لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان ؛ لما بلغني عنه كيت وكيت، ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده. أو يقول: فلان بليد الذهن قليل الفهم ؛ وقصده مدح نفسه، وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه. ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة، والحسد. وإذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح، ليسقط ذلك عنه. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب، ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت ؟! ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت، وكيف فعل كيت وكيت، فيخرج اسمه في معرض تعجبه. ومنهم من يخرج الاغتمام، فيقول: مسكين فلان، غمني ما جرى له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عند أعدائه ليتشفوا به. وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه. ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر. والله المستعان انتهى. ?ومن ألأم المسالك ما تسرب إلى بعض ديار الإسلام من بلاد الكفر، من نصب مشانق التجريح للشخص الذي يراد تحطيمه، والإحباط به بما يلوث وجه كرامته. ويجري ذلك بواسطة سفيه يسافه عن غيره، متلاعب بدينه، قاعد مزجر الكلب النابح، مغبون في أدبه، وخلقه، ودينه. ? بل ربما سلكوا شأن أهل الأهواء، كما يكشفه ابن القيم - رحمه الله تعالى - إذ يقول: (في الصواعق المرسلة 1353) وانظر سرعة المستجيبين لدعاة الرافضة،والقرامطة الباطنية، والجهمية، والمعتزلة، وإكرامهم لدعاتهم وبذل أموالهم وطاعتهم لهم من غير برهان أتوهم به أو آية أروهم إياها، غير أنهم دعوهم إلى تأويل تستغربه النفوس، وتستطرفه العقول، وأوهموهم أنه من وظيفة الخاصة الذين ارتفعوا به عن طبقة العامة، فالصائر إليه معدود في الخواص، مفارق للعوام، فلم تر شيئا من المذاهب الباطلة، والآراء الفاسدة، المستخرجة بالتأويل قوبل الداعي إليه الآتي به، أولا بالتكذيب له، والرد عليه، بل ترى المخدوعين المغرورين يجفلون إليه إجفالا ويأتون إليه أرسالا، تؤزهم إليه شياطينهم ونفوسهم أزا، وتزعجهم إليه إزعاجا فيدخلون فيه أفواجا، يتهافتون فيه تهافت الفراش في النار، ويثوبون إليه مثابة الطير إلى الأوكار، ثم من عظيم آفاته، سهولة الأمر على المتأولين في نقل المدعوين عن مذاهبهم، وقبيح اعتقادهم إليهم، ونسخ الهدى من صدورهم، فإنهم ربما اختاروا للدعوة إليه رجلا مشهورا بالديانة والصيانة، معروفا بالأمانة، حسن الأخلاق، جميل الهيئة، فصيح اللسان، صبورا على التقشف، والتزهد، مرتاضا لمخاطبة الناس على اختلاف طبقاتهم، ويتهيأ لهم مع ذلك من عيب أهل الحق والطعن عليهم والإزراء بهم ما يظفر به المفتش عن العيوب، فيقولون للمغرور المخدوع: وازن بين هؤلاء وهؤلاء، وحكم عقلك، وانظر إلى نتيجة الحق والباطل، فيتهيأ لهم بهذا الخداع ما لا يتهيأ بالجيوش وما لا يطمع في الوصول إليه بدون تلك الجهة انتهى. ? وأما وقيعة الفساق في أهل الفضل والدين، فعلى شبه ممن قال الله فيهم وإذا تتلى عليهم آيتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا الآية (سورة الحج: 725 ) واستخفاف هؤلاء بالدين يحملهم على إشاعة أشياء عن العلماء، والدعاة منهم، ورجال الحسبة فيهم بقصد الشناعة عليهم. ? ويشبه الجميع في قصد التشنيع: أهل الأهواء على اختلاف فرقهم، وتنوع مشاربهم، واختلاف مدارسهم، فإن لهم شهوة جامحة بالوقيعة في أهل السنة، وعلماء الأمة. ?وإذا كانت هذه شناعات في مقام التجريح، فيقابلها على ألسنة شقية: مقام الإطراء الكاذب، برفع أناس فوق منزلتهم، وتعديل المجروحين، والصد عن فعلاتهم، وإن فعل الواحد منهم وفعل. وإذا كانت: ظاهرة التجريح وقيعة بغير حق، فإن منح الامتياز بغير حق يفسد الأخلاق، ويجلب الغرور والاستعلاء، ويغر الجاهلين بمن يضرهم في دينهم ودنياهم. ولهذا ترى العقلاء يأنفون من هذه الامتيازات السخيفة وتأبى نفوسهم من هذه اللوثة الأعجمية الوافدة (في رسالتي تغريب الألفاظ العلمية زيادة بيان لها) وهذه أحرف معترضة ثم أقول: ? وهكذا في سيل متدفق سيال على ألسنة كالسياط، دأبها التربص، فالتوثب على الأعراض، والتمضمض بالاعتراض، مما يوسع جراح الأمة، ويلغي الثقة في علماء الملة، ويغتال الفضل بين أفرادها، ويقطع أرحامها تأسيسا على خيوط من الأوهام، ومنازلات بلا برهان، تجر إلى فتن تدق الأبواب، وتضرب الثقة في قوام الأمة من خيار العباد. فبئس المجتمع، وبئست الهواية، ويا ويحهم يوم تبلى السرائر يوم القيامة. واجب دفعها: والقسمة كما ترى: واحد ظالم لنفسه مبين، وآخر مظلوم. ومن قواعد الملة: نصر المظلوم أخاه المسلم ظالما أو مظلوما لا على مقصد أول من تكلم بها: جندب بن العنبر، إذ أراد بها حمية الجاهلية، ولكن على مقصد النبي صلى الله عليه وسلم إذ أخذ صلى الله عليه وسلم الصورة، ونقلها إلى معنى شريف. نصرته ظالما، بالأخذ على يده، وإبداء النصح له، وإرشاده وتخليصه من بناء الأحكام على الظنون والأوهام، وإعمال اليقين مكان الظن، والبينة محل الوسوسة، والصمت عن القذف بالباطل والإثم، ومبدأ حسن النية، بدل سوء الظن والطوية، وتحذيره من نقمة الله وسخطه. ونصرته مظلوما، بردع الظالم عنه، والإنصاف له منه، والدفع عن عرضه وكرامته، وتسليته، وتذكيره، بما له من الأجر الجزيل، والثواب العريض، وأن الله ناصره - بمشيئته - ولو بعد حين. وهذه النصرة لهما من محاسن الإسلام، وأبواب الجهاد، وتعلن النذارة لذوي النفوس الشريرة حملة الشقاق والشغب أن على الدرب رجالا بالمرصاد، على حد قول الله تعالى: فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون (سورة الأنفال: 57) فتنقمع نفوسهم وهم يسفون المل، وينطوي عن الساحة الشقاق والشغب، وتلقين الناس السؤال عن فلان وعلان، وما يجره من تعب من غير أرب. لهذا جرى القلم في عرض ما هو كائن في معيار الشرع المطهر، عسى أن يكون وسيلة إنقاذ لمن أضناه مشوار التجريح والتصنيف، فيلقي عصا التسيار قبل الممات. وسلوة لمظلوم مضرج برماح الجراحين، فتكشف الضر، وتبعد السوء. وتحذيرا لكل عبد مسلم، من سبيل من أحاطت به خطيئته. وعسى أن يكون في هذه الأوراق تطهير لجماعة المسلمين من هذه الرواسب، وأمن لهم من هذه المخاوف، ونرفع بها الغطاء عن هذه المحنة الدفينة؛ لإطفاء جذوتها وكتم حملتها، خشية أن تعمل عملها فتفرق كلمة المسلمين، وتوجد الفروق بينهم، فيتخطفهم الناس، ويبقى صوت الحق ضئيلا، وحامله ضعيفا. ومع هذا فلن تراها سجلا للحوادث والوقعات المرة، فهي كثيرة، وصاحبها حامل لمسؤوليتها فكلا أخذنا بذنبه الآية ( سورة العنكبوت آية 40) لكنها أحرف جريئة في ورقات قليلة، تقرع جرس النذارة من هذه المكيدة: تصنيف الناس اعتداء و تجريحهم بغيا وعدوانا، فتكشف هذه الظاهرة بجلاء، وتواجه وجوه الذين يتعاملون معها بنصوص واضحة، وقوارع من نصوص الوحيين ظاهرة، فإلى فاتحة البيان لها: ? إن جارحة اللسان الناطق بالكلام المتواطأ عليه، أساس في الحياة والتعايش دينا ودنيا، فبكلمة التوحيد يدخل المرء في ملة الإسلام، وبنقضها يخرج منها، وبين ذلك مراحل انتظمت أبواب الشريعة، فلو نظرت إلى الكلام وما بني عليه من أحكام لوجدت من ذلك عجبا في: الطهارة، والصلوات، وسائر أركان الإسلام، والجهاد، والبيوع، والنكاح، والطلاق، والجنايات، والحدود، والقضاء، . بل أفردت أبواب في الفقهيات كلها لما تلفظ به هذه الأداة: اللسان . في أبواب: القذف، والردة، والأيمان، والنور، والشهادات، والإقرار. وفي أصل الأصول: التوحيد يدور عليه البحث والتأليف. فكم من كلام أوجب ردة فقتلا، أو أوجب قذفا فجلدا، أو أوجب كفارات، أو نزعت بسببه حقوق فردت مظالم إلى أهلها. أو إقرار أوجب بمفرده حكما، ولذا قالوا: إقرار المرء على نفسه أقوى البينات . وهكذا من مناهج الشريعة المباركة الغراء ؛ ولهذا تكاثرت نصوص الوحيين الشريفين في تعظيم شأن اللسان ترغيبا وترهيبا، وأفرد العلماء في جمع غفير من مفرداته المؤلفات، ففي الترغيب: الدعوة إلى الله على بصيرة، ونشر العلم بالدروس، وفضل الصدق، وكلمة الحق . وفي الترهيب: عن الغيبة، والنميمة، والكذب، وآفات اللسان الأخرى. وقد جمعت في ذلك معجم المناهي اللفظية وبسطت أصوله الشرعية في مقدمته. ?وإذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما صح عنه: من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه: أضمن له الجنة . علمت أن هذه الضمانة لا تعلق إلا على أمر عظيم. وهذه بمؤداها رقابة شرعية على حفظ أعراض المسلمين وكف الأذى عنهم في العرض، والدين، والنسب، والمال، والبدن، والعقل . ولما جمع الله شمل المسلمين أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال صلى الله عليه وسلم في خطبته الجامعة على مسمع يزيد عن مائة ألف نفس من المسلمين: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت . طرق التصنيف: وإذا علمت فشو ظاهرة التصنيف الغلابة، وأن إطفاءها واجب، فاعلم أن المحترفين لها سلكوا لتنفيذها طرقا منها: ?أنك ترى الجراح القصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم ذبيحا فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق، فإن ذلك من شعب الإيمان ؟؟؟ ? وترى دأبه التربص، والترصد: عين للترقب وأذن للتجسس، كل هذا للتحريش، وإشعال نار الفتن بالصالحين وغيرهم. ? وترى هذا الرمز البغيض مهموما بمحاصرة الدعاة بسلسلة طويلة ذرعها، رديء متنها، تجر أثقالا من الألقاب المنفرة، والتهم الفاجرة، ليسلكهم في قطار أهل الأهواء، وضلال أهل القبلة، وجعلهم وقود بلبلة، وحطب اضطراب. وبالجملة فهذا القطيع هم أسوأ غزاة الأعراض بالأمراض والعض بالباطل في غوارب العباد، والتفكه بها، فهم مقرنون بأصفاد: الغل، والبغضاء، والحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، والبهت، والإفك، والهمز، واللمز، جميعها في نفاذ واحد. إنهم بحق رمز الإرادة السيئة يرتعون فيها بشهوة جامحة. نعوذ بالله من حالهم، لا رعوا. واجب دفعها: ? فيا لله كم لهذه: الوظيفة الإبليسية من آثار موجعة للجراح نفسه، إذ سلك غير سبيل المؤمنين. فهو لقى، منبوذ، آثم، جان على نفسه، وخلقه، ودينه، وأمته. من كل أبواب سوء القول قد أخذ بنصيب، فهو يقاسم القاذف، ويقاسم: البهات، والقتات، والنمام، والمغتاب، ويتصدر الكذابين الوضاعين في أعز شيء يملكه المسلم: عقيدته وعرضه . قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (الأحزاب: 58) وهذا البهت قد يوجب: ردة للقائل نفسه، كما لو قال لمن عمل بالإسلام: رجعي، متخلف، كما ترى تقريره في أبواب الردة من كتب الشريعة الحديثية والفقهية ؛ ولهذا ألف ابن قطلوبغا، رسالة باسم: من يكفر ولم يشعر . وهذا أسوأ أثر على المتفكهين بهذه الظاهرة فضلا عن آثارها الأخرى عليه: منها سقوط الجراح من احترام الآخرين، وتقويمه بأنه خفيف، طياش، رقيق الديانة، صاحب هوى، جره هواه وقصور نظره عن تمييز الحق من الباطل، إلى مخاصمة الحق، والهجوم عليه بغير حق. بل وسوأة عظمى احتساب المبتلى هذا السعي بالفساد من الدين، وإظهاره بلباس الشرع المتين، والتلذذ بذكره، ونشره. حقا لقد أتعب التاريخ، واتعب نفسه، وآذى التاريخ، وآذى نفسه، فلا هو قال خيرا فغنم، ولا سكت فسلم. فإلى قائمة الممقوتين في سجل التاريخ غير مأسوف عليهم: إن الشقي بالشقاء مولع ???? لا يملك الرد له إذا أتى ?وكم أورثت هذه التهم الباطلة من أذى للمكلوم بها من خفقة في الصدر، ودمعة في العين، وزفرات تظلم يرتجف منها بين يدي ربه في جوف الليل، لهجا بكشفها مادا يديه إلى مغيث المظلومين، كاسر الظالمين. والظالم يغط في نومه، وسهام المظلومين تتقاذفه من كل جانب، عسى أن تصيب منه مقتلا. فيا لله: ما أعظم الفرق بين من نام وأعين الناس ساهرة تدعو له، وبين من نام وأعين الناس ساهرة تدعو عليه (من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى) ?وكم جرت هذه المكيدة من قارعة في الديار، بتشويه وجه الحق، والوقوف في سبيله، وضرب للدعوة من حدثاء الأسنان في عظماء الرجال باحتقارهم وازدرائهم، والاستخفاف بهم وبعلومهم، وإطفاء مواهبهم، وإثارة الشحناء، والبغضاء بينهم. ثم هضم لحقوق المسلمين: في دينهم، وعرضهم. وتحجيم لانتشار الدعوة بينهم، بل وصناعة توابيت، تقبر فيها أنفاس الدعاة ونفائس دعوتهم ؟؟ انظر: كيف يتهافتون على إطفاء نورها، فالله حسبهم، وهو حسيبهم. وهذا مطمع مؤكد من خطط أعداء الملة لعدائها، والاستعداء عليها في منظومتهم الفسلة لكيد المسلمين، ومنها: أن الكفار تكلموا طعنا في رواية راوية الإسلام أبي هريرة - رضي الله عنه - دون غيره من الصحابة - رضي الله عنهم - ؛ لأنه أكثرهم رواية، فإذا استسهل الطعن فيه، تبعه من دونه رواية. لهذا فقد أطبق أهل الملة الإسلامية، على أن الطعن في واحد من الصحابة - رضي الله عنهم - زندقة مكشوفة. قال أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى (فتح المغيث 4 94) وقد أجرى العلماء هذا الحكم بمن قدح في أحد من حملة الشرع المطهر، علماء الأمة العاملين؛ لأن القدح بالحامل يفضي إلى القدح بما يحمله من رسالة البلاغ لدين الله وشرعه ؛ ولهذا أطبق العلماء (رحمهم الله تعالى) على أن من أسباب الإلحاد: القدح بالعلماء . قال الدورقي - رحمه الله تعالى -: من سمعته يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهمه على الإسلام . وقالها أحمد (رحمه الله تعالى) في حق يحيى بن معين، وقيلت في حق أبي زرعة، وعكرمة (رحم الله الجميع ) قال سفيان بن وكيع: أحمد عندنا محنة، من عاب أحمد فهو عندنا فاسق. وقال غيره: أحمد محنة به يعرف المسلم من الزنديق. وقيل فيه: أضحى ابن حنبل محنة مأمونة???? وبحب أحمد يعرف المتنسك وإذا رأيت لأحمد متنقصا???? فاعلم بأن ستوره ستهتك فأهل السنة يمتحن بمحبتهم فيتميز أهل السنة بحبهم، وأهل البدعة ببغضهم: وقال الحافظ بن عساكر رحمه الله تعالى : (في تبين كذب المفتري 29) واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء - رحمة الله عليهم - مسمومة، وعادة الله هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم . . وما زالت ثائرة أهل الأهواء، توظف هذه المكيدة في ثلب علماء الأمة، فقد لجوا في الحط على شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - لأنه عمدة القرون المتأخرة لإحياء منهج السلف. ونشروا في العالم التشنيع على دعوة علماء السلف في قلب الجزيرة العربية بالرجوع إلى الوحيين الشريفين، ونبزهم بشتى الألقاب للتنفير. وفي عصرنا الحاضر يأخذ الدور في هذه الفتنة دورته في مسلاخ من المنتسبين إلى السنة متلفعين بمرط ينسبونه إلى السلفية - ظلما لها - فنصبوا أنفسهم لرمي الدعاة بالتهم الفاجرة المبنية على الحجج الواهية، واشتغلوا بضلالة التصنيف. وهذا بلاء عريض، وفتنة مضلة في تقليص ظل الدين وتشتيت جماعته، وزرع البغضاء بينهم، وإسقاط حملته من أعين الناس، وما هنالك من العناد، وجحد الحق تارة، ورده أخرى. صدق الأئمة الهداة: إن رمي العلماء بالنقائص، وتصنيفهم البائس من البينات، فتح باب زندقة مكشوفة. ?ويا لله كم صدت هذه الفتنة العمياء عن الوقوف في وجه المد الإلحادي، والمد الطرقي، والعبث الأخلاقي، وإعطاء الفرصة لهم في استباحة أخلاقيات العباد، وتأجيج سبل الفساد والإفساد. إلى آخر ما تجره هذه المكيدة المهينة من جنايات على الدين، وعلى علمائه، وعلى الأمة، وعلى ولاة أمرها. وبالجملة فهي فتنة مضلة، والقائم بها مفتون و منشق عن جماعة المسلمين. سندها: ? وبعد الإشارة إلى آثار المنشقين وغوائل تصنيفهم فإنك لو سألت: الجراح عن مستنده، وبينته على هذا التصنيف الذي يصك به العباد صك الجندل، لأفلت يديه يقلب كفيه، متلعثما اليوم بما برع به لسانه بالأمس، ولوجدت نهاية ما لديه من بينات هي: وساوس غامضة، وانفعالات متوترة، وحسد قاطع. وتوظيف لسوء الظن، والظن أكذب الحديث. وبناء على الزعم، وبئس مطية الرجل زعموا. فالمنشق يشيد الأحكام على هذه الأوهام المنهارة، والظنون المرجوحة، ومتى كانت أساسا تبنى عليه الأحكام (مجموع الفتاوى 13110-112 ) ؟؟ ومن آحادها السخيفة التي يأتمرون ويلتقون عليها للتصنيف: ? فلان يترحم على فلان، وهو من الفرقة الفلانية؟ فانظر كيف يتحجرون رحمة الله، ويقعون في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة إضافة إلى التصنيف بالإثم. ? إنه يذكر فلانا بالدرس، وينقل عنه: والذي تحرر لي أن العلماء لا ينقلون عن أهل الأهواء المغلظة، والبدع الكبرى - المكفرة -، ولا عن صاحب هوى أو بدعة في بدعته، ولا متظاهر ببدعة متسافه بها، داعية إليها. وما دون ذلك ينقلون عنهم على الجادة أي: على سبيل الاعتبار، كالشأن في سياق الشواهد والمتابعات في المرويات. ? ومن مستندات المنشقين الجراحين: تتبع العثرات، وتلمس الزلات، والهفوات. فيجرح بالخطأ، ويتبع العالم بالزلة، ولا تغفر له هفوة. وهذا منهج مرد. فمن ذا الذي سلم من الخطأ - غير أنبياء الله ورسله -، وكم لبعض المشاهير من العلماء من زلات، لكنها مغتفرة بجانب ما هم عليه من الحق والهدى والخير الكثير: من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط. ولو أخذ كل إنسان بهذا لما بقي معنا أحد، ولصرنا مثل دودة القز، تطوي على نفسها بنفسها حتى تموت. وانظر: ما ثبت في: الصحيحين عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم . هذا وهم أهل بيت الرجل وخاصته فكيف بغيرهم؟ وما شرع أدب الاستئذان، وما يتبعه من تحسيس أهل البيت بدخول الداخل إلا للبعد عن الوقوع على العثرات فكيف بتتبعها. ? ومن طرائقهم: ترتيب سوء الظن، وحمل التصرفات قولا، وفعلا على محامل السوء والشكوك. ومنه: التناوش من مكان بعيد لحمل الكلام على محامل السوء بعد بذل الهم القاطع للترصد، والتربص والفرح العظيم بأنه وجد على فلان كذا، وعلى فلان كذا. ومتى صار من دين الله: فرح المسلم بمقارفة أخيه المسلم للآثام. ألا إن هذا التصيد، داء خبيث متى ما تمكن من نفس أطفأ ما فيها من نور الإيمان، وصير القلب خرابا يبابا، يستقبل الأهواء والشهوات، ويفرزها. نعوذ بالله من الخذلان. ومن هذا العرض يتبين أن: ظاهرة التصنيف تسري بدون مقومات مقبولة شرعا، فهي مبنية على دعوى مجردة من الدليل، وإذا كانت كذلك بطل الادعاء، واضمحلت الدعوى، وأصبحت غير مسموعة شرعا، وآلت حال المدعي إلى مدعى عليه تقام عليه الدعوى بما كذب وافترى وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو يعطى الناس بدعواهم . الحديث دوافعها: ?حينئذ يأتي السؤال: ما هي الأسباب الداعية إلى شهوة التجريح بلا دليل؟ والجواب: أن الدافع لا يخلو: ? إما أن يكون الدافع عداوة عقدية في حسبانه فهذا لأرباب التوجهات الفكرية، والعقدية المخالفة للإسلام الصحيح في إطار السلف. وهؤلاء هم الذين ألقوا بذور هذه الظاهرة في ناشئتنا. ? أو يكون الدافع من تلبيس إبليس، وتلاعبه في بعض العباد بداء الوسواس، وكثيرا ما يكون في هؤلاء الصالحين من نفث فيهم أهل الأهواء نفثه، فتمكنت من قلوبهم، وحسبوها زيادة في التوقي والورع، فطاروا بها في كل مطار حتى أكلت أوقاتهم، واستلهمت جهودهم، وصدتهم عما هم بحاجة إليه من التحصيل، والوقوف على حقائق العلم والإيمان. ولهذا كثرت أسئلتهم عن فلان، وفلان، ثم تنزلت بهم الحال إلى الوقوع فيهم. وكأن ابن القيم - رحمه الله - شاهد عيان لما يجري في عصرنا إذ يقول (في الداء والداوء 187) ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك. ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين، والزهد، والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالا، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب. وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول انتهى. ? أو يكون الدافع: داء الحسد والبغي والغيرة وهي أشد ما تكون بين المنتسبين إلى الخير والعلم، فإذا رأى المغبون في حظه من هبوط منزلته الاعتبارية في قلوب الناس، وجفولهم عنه، بجانب ما كتب الله لأحد أقرانه من نعمة - هو منها محروم -، من القبول في الأرض، وانتشار الذكر، والتفاف الطلاب حوله، أخذ بتوهين حاله، وذمه بما يشبه المدح، فلان كذا إلا أنه . وقد يسلك - وشتان بين المسلكين - صنيع المتورعين من المحدثين في المجروحين كحركات التوهين، وصيغ الدعاء التي تشير إلى المؤاخذات، والله يعلم أنه لا يريد إلا التمريض، يفعل هذا كمدا من باب الضرب للمحظوظين بوساوس المحرومين. وكل هذا من عمل الشيطان. ومن هنا تبتهج النفس بدقة نظر النقاد، إذ صرفوا النظر عما سبيله كذلك من تقادح الأقران. ولهذا تتابعت كلمات السلف كما روى بعضا منها ابن عبد البر - رحمه الله تعالى - بأسانيده في جامعه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومالك بن دينار، أبي حزم - رحمهم الله تعالى ومنها: خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة وعن أبي حازم: العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من دونه لم يزه عليه حتى كان هذا الزمان، فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه، فهلك الناس وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته: الزبير بن العوام - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء، البغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم: أفشوا السلام بينكم . ? أو الدافع: عداوة دنيوية فكم أثارت من تباغض وشحناء، ونكد، ومكابدة. فهؤلاء دائما في غصة من حياتهم، وتحرق على حظوظهم، ولا ينالون شيئا وإنما أهلك الناس الدرهم والدينار واللبيب يعرف شرح ذلك. وعلى كل حال فإن الهوى هو الذي يحمل الفريقين على هذه الموبقات، وقد يجتمع في الإنسان أكثر من دافع. وأشدهم طوعا للهوى، أكثرهم إغراقا في هذه الدوافع؛ إذ إن إصدار أي حكم لا يخلو من واحد من مأخذين لا ثالث لهما: 1-الشريعة: وهي المستند الحق وموئل العدل ، وماذا بعد الحق إلا الضلال. 2- الهوى: وهو المأخذ الواهي الباطل المذموم، ولا يترتب عليه حق أبدا. والهوى - نعوذ بالله منه - هو أول فتنة طرقت العالم، وباتباع الهوى ضل إبليس، وبه ضل كثير من الأمم عن اتباع رسلهم وأنبيائهم كما في قصص القرآن العظيم ؛ ولهذا حكم الله - وهو أعدل الحاكمين - انه لا أحد أضل ممن اتبع هواه، فقال سبحانه: ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله (القصص: 50 ) وقال تعالى ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (ص: 26) ولذلك قيل للمائلين عن سبيل القصد: أهل الأهواء ؛ وذلك لاتباعهم الهوى، أو لأنها تهوي بأهلها في النار. ? وإذا كان أهل الأهواء قد نجحوا في نفثتهم المحمومة هذه، ففتح الأغرار بها كوة على علمائهم، فإن اللادينيين قد حولوها إلى باب مفتوح على مصراعيه، فألحقوا كل نقيصة، وسخرية في كل متدين وعبد صالح، وأما العلماء فقد جعلوهم وقود البلبلة وحطب الاضطراب . الانشقاق بها : ?وإذا كان أهل الظاهرة مع شيوعها، وانتشارها، واهية السند، معدومة البينة، فمن هو الذي تولى كبرها، ونفخ في كيرها، وسعى في الأرض فسادا بنشرها، وتحريك افتن بها، والتحريش بواسطتها ؟؟؟ والجواب: هم أرباب تلك الدوافع، ولا تبتعد فتبتئس وخل عنك التحذلق والفجور، نعوذ بالله من أمراض القلوب. والنفس لا تنقطع حسرات هنا، فإن من في قلبه نوع هوى وبدعة، قد عرفت هذه الفعلات من جادتهم التي يتوارثونها على مدى التاريخ، وتوالي العصر، وقد نبه على مكايدهم العلماء، وحذروا الأغرار من الاغترار . لكن بلية لا لعا لها، وفتنة وقى الله شرها حين سرت في عصرنا - ظاهرة الشغب هذه إلى من شاء الله من المنتسبين إلى السنة، ودعوى نصرتها، فاتخذوا التصنيف بالتجريح دينا وديدنا، فصاروا إلبا على أقرانهم من أهل السنة، وحربا على رؤوسهم، وعظمائهم، يلحقونهم الأوصاف المرذولة، وينبزونهم بالألقاب المستشنعة المهزولة، حتى بلغت بهم الحال أن فاهوا بقولتهم عن إخوانهم في الاعتقاد، والسنة، والأثر: هم أضر من اليهود والنصارى و فلان زنديق ؟؟ وتعاموا عن كل ما يجتاب ديار الإسلام، ويخترق آفاقهم، من الكفر، والشرك، والزندقة، والإلحاد، وفتح سبل الإفساد والفساد، وما يفد في كل صباح ومساء من مغريات وشهوات، وأدواء وشبهات، تنتج تكفير الأمة، وتفسيقها، وإخراجها نشأ آخر منسلخا من دينه وخلقه. وهنا، ومن هذا الانشقاق تشفى المخالف بواسطة المنشقين ووصل العدو عن طريقهم، وجندوهم للتفريق من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وانفض بعض عن العلماء، والالتفاف حولهم، ووهنوا حالهم، وزهدوا الناس في علمهم. وبهؤلاء المنشقين آل أمر طلائع الأمة، وشبابها إلى أوزاع، وأشتات، وفرق، وأحزاب، وركض وراء السراب، وضياع في المنهج، والقدوة، وما نجا من غمرتها إلا من صحبه التوفيق، وعمر الإيمان قلبه. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا الانشقاق في صف أهل السنة لأول مرة - حسبما نعلم - يوجد في المنتسبين إليهم من يشاقهم، ويجند نفسه لمثافنتهم، ويتوسد ذراع الهم لإطفاء جذوتهم، والوقوف في طريق دعوتهم، وإطلاق العنان للسان يفري في أعراض الدعاة ويلقي في طريقهم العوائق في عصبية طائشة فلو رأيتهم - مساكين يرثى لحالهم وضياعهم - وهم يتواثبون، ويقفزون، والله أعلم بما يوعون، لأدركت فيهم الخفة والطيش في أحلام طير. وهذا شأن من يخفق على غير قاعدة ولو حاججت الواحد منهم لما رأيت عنده إلا قطعة من الحماس يتدثر بها على غير بصيرة، فيصل إلى عقول السذج من باب هذه الظاهرة: الغيرة، نصرة السنة، وحدة الأمة، وهم أول من يضع رأس المعول لهدمها، وتمزيق شملها . لكن مما يطمئن أن هذه: وعكة مصيرها إلى الاضمحلال و لوثة وافدة تنطفي عن قريب، وعودة المنشقين إلى جماعة المسلمين أن تعلم: ? أن هذا التبدد يعيش في أفراد بلا أتباع، وصدق الله وما للظالمين من أنصار (البقرة: 270) ومن صالح الدعاء ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين (الأعراف: 47) وقوله تعالى رب فلا تجعلني في القوم الظالمين (المؤمنون: 94) ? وأن هؤلاء الأفراد يسيرون بلا قضية. ? وأن جولانهم: هو من فزع وثبة الانشقاق؛ ولهذا تلمس فيهم زعارة، وقلة توفيق. فلابد - بإذن الله تعالى - أن تخبو هذه اللوثة، ويتقلص ظلها ن وتنكتم أنفاسها، ويعود المنشق تائبا إلى صف جماعة المسلمين، تاليا قول الله تعالى رب نجني من القوم الظالمين ( القصص: 21) تبعة فشوها: ثم يأتي سؤال ثان: من الذي يحمل تبعة فشو ظاهرة التصنيف فالانشقاق عن أهل السنة؟ يحمل تبعتها فريقان: الأول: الغافلون عن تنفس التوجهات الفكرية، والعقدية، والمادية، وزرعها في أفئدة الناشئة. وأصله: التفريط في الغيرة على الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومد بساط: عسى، ولعل. الثاني: غياب العالم القدوة عن القيام بدوره الجهادي التربوي - بلا تذبذب - كل بما فتح الله عليه حسب وسعه وطاقته. لهذين الأثر العظيم في تنفس هذه الظاهرة. العمل لمواجهتها هذه هي حقيقة هذه الظاهرة، وآثارها، ومستندها، ودوافعها، ومتولي كبرها، وأسباب فشوها، وتفنيدها. ما العمل لمواجهتها، وكف بأسها عن المسلمين؟ فأقول: العمل في أصول إلى ثلاث فئات: 1-إلى الجراح المتلبس بظاهرة التصنيف. 2-إلى الذي وجه إليه التصنيف. 3- أصول لهما، ولكل مسلم يريد الله والدار الآخرة. فإلى بيانها: الحواشي (1) هل يقال: ها أنا أو: ها أنا ذا فيه بحث أنظره في التحرير والتنوير : (1586-588 ). لكن لم يظهر لي تماما توجيهه.