الحج المبرور صفته وأحكامه

ن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. متفق عليه وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله ترى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور. أخرجه البخاري أيها الأخ الكريم فيما سبق من الحديثين دليل على فضل الحج لبيت الله الحرام، وعظم الأجر والثواب المترتب عليه، لكن ذلك مقيد كما ترى بالحج المبرور الذي لا رفث فيه ولا فسوق، وهذا يتطلب معرفة بعض الأحكام الخاصة بالحج، ونحن هنا سنعرض لبعض هذه الأحكام ونذكر بعض الفوائد المستفادة من أحاديث الحج الواردة في صحيح البخاري، حيث سنعرض كل حديث وما فيه من فوائد وأحكام مع الاستفادة من فتح الباري شرح صحيح البخاري فنقول: الحج لغة: القصد. وقال الخليل: كثرة القصد إلى معظم. الحج شرعا: القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة. سنة فرضه: سنة ست لأنها نزلت فيها: وأتموا الحج والعمرة لله وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض وقيل المراد بالإتمام: الإكمال بعد الشروع. قال الله تعالى: يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم (الحج: 27) والفج: الطريق الواسع. من فوائد الآية: أ-الراحلة ليست شرطا للوجوب. ب- روى الطبري قال مجاهد: كانوا لا يركبون فأنزل الله: يأتوك رجالا وعلى كل ضامر فأمرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب والبحر. ج- روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما فاتني شيء أشد علي أن لا أكون حججت ماشيا لأن الله يقول: يأتوك رجالا وعلى كل ضامر فبدأ بالرجال أي المشاة قبل الركبان ولأن الأجر على قدر المشقة. وقال آخرون: الركوب أفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولكونه أعون على الدعاء والابتهال ولما فيه من المنفعة. قال عمر رضي الله عنه: شدوا الرحال إلى الحج والعمرة فإنه أحد الجهادين وتسمية الحج جهادا إما من باب التغليب أو على الحقيقة، والمراد جهاد النفس، لما فيه من إدخال المشقة على البدن والمال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. (الرفث) الجماع، ويطلق على التعريض به، وعلى الفحش في القول، قال الأزهري: الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة. فال عياض: هذا من قول الله تعالى: فلا رفث ولا فسوق. والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع. والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك. (ولم يفسق) أي لم يأت بسيئة ولا معصية. قوله: (رجع كيوم ولدته أمه) أي بغير ذنب. وظاهره غفران الصغائر والكبائر. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس. فأنزل الله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ومن فوائد هذا الحديث: 1-من الفقه أن ترك السؤال من التقوى، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافا فإن قوله: فإن خير الزاد التقوى أي تزودوا واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم. 2- قال: وفيه أن التوكل لا يكون مع السؤال وإنما التوكل المحمود ألا يستعين بأحد في شيء وقيل: هو قطع النظر في الأسباب بعد تهيئة الأسباب اعقلها وتوكل. مهل أهل مكة للحج والعمرة عن ابن عباس قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة. من الفوائد: 1-قوله: هن لهن مفسر لقوله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها ومن سلك طريق سفرهم فمر على ميقاتهم. 2-قوله: فمن أراد الحج والعمرة فيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام. 3- قوله: (من مكة) أي لا يحتاجون إلى الميقات للإحرام بل يحرمون من مكة مثل الذي بين الميقات ومكة فإنه يحرم من مكانه ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه وهذا خاص بالحاج. وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل. 4-اختلف فيمن جاوز الميقات مريدا للنسك فلم يحرم، قال الجمهور: يأثم ويلزمه دم. 5- قال الجمهور: لو رجع إلى الميقات قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم. وقال أبو حنيفة بشرط أن يعود ملبيا ويرى أحمد أنه لا يسقط بشيء. تنبيه: الأفضل في كل ميقات أن يحرم من طرفه الأبعد من مكة فلو أحرم من طرف الأقرب جاز. العقيق واد مبارك عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بوادي العقيق: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة. وفي روايات أخرى أنه عرس في هذا الوادي. المعاني والفوائد: 1-هذا الحديث دال على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا. 2-وفي الحديث فضل العقيق وفضل الصلاة فيه. 3- وفيه استحباب نزول الحاج في منزلة قريبة من البلد ومبيتهم بها ليجتمع إليهم من تأخر عنهم ممن أراد مرافقتهم وليستدرك حاجته من نسيها مثلا فيرجع إليها من قريب. غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب قال يعلى بن أمية لعمر: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه. قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة- ومعه نفر من أصحابه- جاءه رجل فقال: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، فجاءه يعلى- وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثوب قد أظل به فأدخل رأسه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يغط، ثم سري عنه فقال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك. المعاني والفوائد: 1-الخلوق: نوع من الطيب مركب فيه زعفران. 2- روى الطحاوي: أن يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعها، قال قتادة: قلت لعطاء: إنما كنا نرى أن نشقها، فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد. 3- (أظل به) أي جعل عليه كالظلة. 4- (يغط) أي ينفخ والغطيط صوت النفس المتردد من النائم أو المغمى، وسبب ذلك شدة ثقل الوحي، وكان سبب إدخال يعلى رأسه عليه في تلك الحال أنه كان يحب لو رآه في حالة نزول الوحي. 5- (سري عنه) أي كشف عنه شيئا بعد شيء. 6- (اغسل الطيب الذي بك) هو أعم من أن يكون بثوبه أو ببدنه. 7- (واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك) وهذا دليل على أنهم يعرفون أعمال الحج قبل ذلك. قال ابن العربي: كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد. 8-(واصنع) معناه اترك لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل. 9- استدل بحديث يعلى بن أمية على أن منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن. وأجاب الجمهور بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة كما ثبت في هذا الحديث وهي في سنة ثمان بلا خلاف. وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديها عند إحرامه وكان ذلك في حجة الوداع سنة 10هـ بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر، فالآخر من الأمر، وبأن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب، فلعل علة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران. وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقا محرما وغير محرم. 10-استدل به على أن من أصابه طيب في إحرامه ناسيا أو جاهلا ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه. وقال مالك: إن طال ذلك عليه لزمه. 11- على المحرم إذا صار عليه المخيط نزعه ولا يلزمه تمزيقه ولا شقه خلافا للنخعي والشعبي حيث قالا: لا ينزعه من قبل رأسه، لئلا يصير مغطيا لرأسه. 12- على المفتي والحاكم إذا لم يعرف الحكم أن يمسك حتى يتبين له. 13-بعض الأحكام ثبتت بالوحي وإن لم تكن تتلى. الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم قال ابن عباس رضي الله عنهما: يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة ويتداوى ويأكل الزيت والسمن، وقال عطاء يتختم ويلبس الهميان. وطاف ابن عمر رضي الله عنهما وهو محرم وقد حزم على بطنه بثوب، ولم تر عائشة بالتبان بأسا للذين يرحلون هودجها. عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. وعنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. المعاني والفوائد: 1- الأمر بغسل الخلوق في الحديث السابق إنما هو بالنسبة للثياب لأن المحرم لا يلبس شيئا من الزعفران، وأما الطيب فلا يمنع استدامته على البدن، وأضاف إلى التطيب الترجل والادهان لجامع ما بينهما من الترفه. 2- أما الريحان فقد اختلف فيه فقال إسحاق: يباح، وتوقف أحمد. وقال الشافعي: يحرم وكرهه مالك والحنفية، ومنشأ الخلاف أن كل ما يتخذ منه الطيب يحرم بلا خلاف وأما غيره فلا. 3- الهميان: يشبه تكة السراويل يجعل فيه النفقة ويشد في الوسط. 4- التبان: سراويل قصير بغير أكمام. 5- يرحلون: يشدون على ظهره الرحل. وعند سعيد بن منصور: أنها حجت ومعها غلمان وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسونها وهم محرمون. وكأن هذا رأي رأته عائشة وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم. 6- كره بعض الصحابة استدامة الطيب بعد الإحرام وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع ويستغنى بها عن آراء الرجال. 7- وبيص: بريق، والمراد به التلألؤ، وأنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط. 8- (في مفارق) جمع مفرق وهو المكان الذي يفترق فيه الشعر في وسط الرأس قيل ذكرته بصيغة الجمع تعميما لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر. 9- (لإحرامه) لأجل إحرامه. 10- (ولحله) بعد أن يرمي ويحلق وأما قولها: كنت أطيب فلا يقتضي التكرار ولكن يستفاد منها المبالغة في إثبات ذلك، والمعنى: كانت تكرر فعل التطيب لو تكرر من فعل الإحرام لما اطلعت عليه من استحبابه لذلك. وهذه اللفظة لم يتفق عليها ففي البخاري أيضا: طيبت من طريق سفيان بن عيينة. ويستدل منه على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وجواز استدامته بعد ذلك وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته لقول عائشة: ثم أصبح محرما ينضح طيبا: وإنما الذي يحرم ابتداؤه في الإحرام وهو قول الجمهور. وأما الذين قالوا: إن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم فالخصائص لا تثبت بالقياس كما أن عائشة رضي الله عنها طيبته بيديها كما ورد فمست الطيب هي أيضا. ولما حج سليمان بن عبد الملك جمع فقهاء المدينة أمثال عمر بن عبد العزيز وسالم بن عبد الله وخارجة بن زيد فسألهم عن التطيب قبل الإفاضة فكلهم أمر به. الإهلال عند مسجد ذي الحليفة عن عبد الله بن عمر قال: ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة. المعاني والفوائد: (الإهلال عند مسجد ذي الحليفة) أي لمن حج من المدينة وفي رواية أبي داود عن ابن عباس أنه كرر الإهلال عند استقلال راحلته به وعندما علا شرف البيداء. ما يلبس المحرم من الثياب عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن رجلا قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين. ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس. المعاني والفوائد: 1- (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القمص إلخ) قال النووي هذا الجواب من بديع الكلام وجزله لأن ما لا يلبس منحصر فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر فقال: لا يلبس كذا أي ويلبس ما سواه. انتهى. وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر. وفيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس لأنه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه، إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب، فكان الأليق السؤال عما لا يلبس. ويقرب منه قوله تعالى: (يسئلونك ماذا ينفقون. قل ما أنفقتم من خير فللوالدين) فعدل عن جنس المنفق وهو المسئول عنه إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم. وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان ولو بتغيير أو زيادة ولا تشترط المطابقة. 2- للمرأة لبس جميع ما ذكر وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس. 3- قال عياض: نبه بالقميص والسراويل على كل مخيط وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطي الرأس به مخيطا أو غيره وبالخفاف على كل ما يستر الرجل. 4- المراد بتحريم المخيط ما يلبس على الموضع الذي جعل له في بعض البدن فأما لو ارتدى القميص (أي جعله كالرداء) مثلا فلا بأس. 5- قال الخطابي: ذكر العمامة والبرنس معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر، قال: ومن النادر المكتل يحمله على رأسه. قلت: إن أراد أن يجعله على رأسه كلابس القبعة صح ما قال، وإلا فمجرد وضعه على رأسه على هيئة الحامل لحاجته لا يضر على مذهبه. 6- لا يضر الانغماس في الماء فإنه لا يسمى لابسا، كذا ستر الرأس باليد. 7- (لا يجد نعلين) قال الجمهور: واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين. 8- المراد بعدم الوجدان ألا يقدر على تحصيله إما لفقده أو ترك المالك له وعجزه عن الثمن إن وجد من يبيعه أو الأجرة، ولو بيع بغبن لم يلزمه شراؤه أو وهب له لم يجب قبوله، إلا إن أعير له. 9- (وليقطعهما أسفل من الكعبين) الكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. وهو مقيد لحديث ابن عباس ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين لأنه لم يذكر القطع، وعند أحمد يجوز لبسهما بلا قطع لإطلاق حديث ابن عباس. 10- ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس) الورس نبت أصفر طيب الرائحة يصبغ به. ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر ولبست عائشة رضي الله عنها الثياب المعصفرة وهي محرمة وقالت: لا تلثم ولا تتبرقع، ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران. وقال جابر: لا أرى المعصفر طيبا، ولم تر عائشة بأسا بالحلي والثوب الأسود والمورد والخف للمرأة. وقال إبراهيم: لا بأس أن يبدل ثوبه. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا الزعفرة التي تردع على الجلد، فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه، وقلد بدنته، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل من أجل بدنه لأنه قلدها. ثم نزل بأعلى مكة عند الحجون وهو مهل بالحج، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة، وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يقصروا من رؤوسهم ثم يحلوا، وذلك لمن لم يكن معه بدنة قلدها، ومن كانت معه امرأته فهي له حلال. والطيب والثياب. الفوائد والمعاني: 1- (لبست عائشة الثياب المعصفرة وهي محرمة) أجاز الجمهور لبس المعصفر للمحرم، وعن أبي حنيفة: العصفر طيب وفيه الفدية، واحتج بأن عمر كان ينهى عن الثياب المصبغة وتعقبه ابن المنذر بأن عمر كره ذلك لئلا يقتدي به الجاهل فيظن جواز الورس والمزعفر. 2- (لا تلثم) لا تغطي شفتها بثوب. 3- (المورد) ما صبغ على لون الورد. 4- ولم تر عائشة بأسا بالحلي والثوب الأسود والمورد والخف للمرأة). قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال. وقال الحسن: يغير المحرم ثيابه ما شاء. وقال إبراهيم: كان أصحابنا إذا أتوا بئر ميمون اغتسلوا ولبسوا أحسن ثيابهم فدخلوا فيها مكة. 5- (التي تردع) تلطخ والردع أثر الطيب وردع به الطيب إذا لزق بجلده. 6- (الحجون) الجبل المطل على المسجد بأعلى مكة على يمين المصعد وهناك مقبرة أهل مكة. 7- (والطيب والثياب) أي كذلك حلال. وسيأتي بقية شرحه. البيات بذي الحليفة حتى الصباح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب راحلته واستوت به أهل. المعاني والفوائد: 1- مشروعية المبيت بالقرب من البلد التي يسافر منها ليكون أمكن من التوصل إلى مهماته التي ينساها. 2- ليس ذلك من سنن الحج، وإنما هو من جهة الرفق ليلحق به من تأخر عنه. 3- (وبذي الحليفة ركعتين) فيه مشروعية قصر الصلاة لمن خرج من بيوت البلد وبات خارجا عنها ولو لم يستمر سفره، واحتج به أهل الظاهر في قصر الصلاة في السفر القصير، ولا حجة فيه لأنه كابتداء سفر، لا المنتهي. رفع الصوت بالإهلال عن أنس رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين، وسمعتهم يصرخون بهما جميعا. المعاني والفوائد: 1- قال الطبري: الإهلال هنا رفع الصوت بالتلبية وكل رافع صوته بشيء فهو مهل به. 2- أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم. 3- في الموطأ لا يرفع صوته بالتلبية في مسجد الجماعات. التلبية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. الفوائد والمعاني: 1- لبيك اللهم لبيك إي إجابة من بعد إجابة أو إجابة لازمة مثل حنانيك أي تحنن بعد تحنن. 2- في مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه. 3- زاد مسلم عن ابن عمر قال: كان عمر يهل ويزيد: لبيك اللهم لبيك، وسعديك والخير في يديك والرغباء إليك والعمل، وزاد ابن أبي شيبة في تلبية عمر لبيك مرغوبا ومرهوبا إليك ذا النعماء والفضل الحسن. 4- قال الطحاوي بعد ذكر روايات في الزيادة في التلبية: أجمع المسلمون جميعا على هذه التلبية، غير أن قوما قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر لله ما أحب، وخالفهم آخرون وقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس. 5- حكم التلبية أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء وهو قول الشافعي وأحمد وقيل إنها واجبة ويجب بتركها دم. التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة عن أنس رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة- الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما فلما قدمنا أمر الناس فحلوا، حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج. قال: ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة كبشين أملحين الإهلال مستقبل القبلة كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى بالغداة بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت، ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائما ثم يلبي حتى يبلغ الحرم، ثم يمسك، حتى إذا جاء ذا طوى بات به حتى يصبح، فإذا صلى الغداة اغتسل وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. المعاني والفوائد: - (ثم يمسك) الظاهر انه أراد يمسك عن التلبية وكأنه أراد بالحرم المسجد، والمراد بالإمساك عن التلبية، التشاغل بغيرها من الطواف وغيره أو المراد ترك تكرار التلبية ومواظبتها ورفع الصوت بها الذي يفعل في أول الإحرام لا ترك التلبية رأسا. كيف تهل الحائض والنفساء عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا. فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة. ففعلت. فلما قضينا الحج أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر فاعتمرت فقال: هذا مكان عمرتك قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا واحدا بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا. من الفوائد والمعاني: قال الخطابي: استشكل بعض أهل العلم أمره لها بنقض رأسها ثم بالامتشاط، وكان الشافعي يتأوله على أنه أمرها أن تدع العمرة وتدخل عليها الحج فتصير قارنة. وقيل إن مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة، قال: وهذا لا يعلم وجهه. وقيل كانت مضطرة إلى ذلك. قال: ويحتمل أن يكون نقض رأسها كان لأجل الغسل لتهل بالحج لا سيما إن كانت ملبدة فتحتاج إلى نقض الضفر، وأما الامتشاط فلعل المراد تسريحها شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كان.