الطريقة المثلى في الدعوة إلى التوحيد

رسل الله تعالى رسولا إلا أمره بالتوحيد، والدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. قال الله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (سورة النحل، الآية: 36) وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول غلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (سورة الأنبياء، الآية: 25) - وقد عني الرسل، عليهم الصلاة والسلام، بذلك، فبدأوا البلاغ بدعوة أممهم إلى أن يعبدوا الله وحده، ولا يشركوا به شيئا، وقطعوا فيه شوطا بعيدا حتى شغلوا به الكثير من أوقات البلاغ. - ولا عجب في ذلك فإن التوحيد أصل الدين وذروة سنامه، وملاك الإسلام ودعامته الأولى، لا تصح من إنسان قربة، ولا يتقبل الله منه عبادة إلا إذا كانت مقرونة بالتوحيد، وإخلاص القلب لله وحده. قال تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين. ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (سورة الزمر، الآيتان: 2،3) وقال: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (سورة البينة، الآية 5) - وقد أرشد الله الناس إلى أيسر الطرق في الدعوة إلى التوحيد، وأسهلها، وأقربها إلى معرفة الحق، وأعدلها. وهو الاستدلال بآيات الله، وسننه الكونية، وتفرده (سبحانه) بتصريفها، وتدبيرها على تفرده بالإلهية واستحقاقه أن يعبد وحده لا شريك له، فذلك أهدى سبيلا، وأقوم دليلا، وأقوى في إقناع الخصم، وإلزامه الحجة، فإنه مقتضى العقل الصريح وموجبا للفطرة السليمة. - قال الله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون? الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (سورة البقرة، الآيتان: 21،22) فرتب (سبحانه) نهيه إياهم عن اتخاذهم شركاء له في العبادة على علمهم، وإقرارهم بأنه (تعالى) وحده هو الذي خلقهم، وخلق الذين من قبلهم، وهو الذي جعل الأرض قرارا، وذللها لهم ليمشوا في جوانبها، وليبتغوا من فضله، ورفع السماء بلا عمد، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم، لينعموا بما آتاهم من النعم، وليتمتعوا بما أفاض عليهم من الخيرات لعلهم يتقون ربهم، وولي نعمتهم، فيعبدوه وحده لا شريك له مخلصين له الدين، شكرا له على ما أسبغ عليهم من نعمه، وأفاض عليهم من بركاته. - وفي القرآن كثير من النظائر لهاتين الآيتين في بيان أسلوب الدعوة، ورسم الطريق الناجحة في إقامة الحجة، وإلزام الخصم. - لقد سلك الأنبياء والمرسلون هذه الطريقة في دعوتهم أممهم إلى الهدى ودين الحق، اهتداء بهدي الله، واسترشادا بإرشاده، وهو العليم الحكيم، ومن أبرزهم في ذلك أولو العزم من الرسل، ومنهم إبراهيم الخليل، عليهم الصلاة والسلام. أرسل الله (جل شأنه) خليله إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، إلى قوم من الفرس عتاة جبارين يعبدون التماثيل، فأنكر عليهم عكوفهم لها، وتقربهم إليها. قال (تعالى): ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين?إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (سورة الأنبياء، الآيتان: 51،52) ولما لم يكن لديهم حجة يعتمدون عليها في عبادتهم الأصنام، تعللوا لباطلهم بما وجدوا عليه آباءهم من التقرب إلى التماثيل، وعبادتهم إياها، فألغوا عقولهم، وقلدوا آباءهم على غير هدى وبصيرة: قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (سورة الأنبياء، الآية: 53) فسفه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أحلامهم، وحكم عليهم وعلى آبائهم بالحيرة، والضلال المبين، قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (سورة الأنبياء، الآية: 54) وبين لهم أن هذه التماثيل لا تسمع النداء، ولا تستجيب الدعاء، ولا تملك نفعا، ولا توقع ضرا، فلا يليق بعاقل أن يتخذها آلهة مع من فطر السموات والأرض، وإليه مقاليد الأمور، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويضر من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (سورة الشعراء، الآيات: 72 74) فلما ركبوا رؤوسهم، وأبوا إلا اللجاج والعناد، والعصبية الممقوتة في تقليد الآباء والأجداد، أعلن براءته منهم، وشدة عداوته لهم، ولما يعبدون من دون الله: قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون. أنتم وآباؤكم الأقدمون? فإنهم عدو لي إلا رب العالمين? الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين? وإذا مرضت فهو يشفين? والذي يميتني ثم يحين? والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (سورة الشعراء، الآيات: 75 82) وجد إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أنه لابد له من سلوك طريق آخر عملي في إقامة الحجة ليكون أقوى في الإبانة عن الحق، وأملك في إلزام الخصم، يضطرهم به إلى الاعتراف بما هم فيه من ضلال، وظلم، وانحراف، فأقسم بالله أن يكيد لأصنامهم وهم عنها غائبون، انتهز فرصة خروجهم من البلد لبعض شأنهم، وذهب إلى آلهتهم لئلا يراه أحد فيصده عن تنفيذ ما أراد، فجعلهم قطعا صغارا إلا كبيرا لهم تركه سالما، ليكون له ولهم معه شأن عند التحقيق فيما جرى على أصنامهم، فلما عادوا إلى منازلهم، وشاهدوا ما أصيبت به آلهتهم: قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين? قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ? قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون (سورة الأنبياء، الآيات: 59 61) فلما حضر مجلسهم أخذوا يقررونه بما صنع بآلهتهم: قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم (سورة الأنبياء، الآية: 62) فأجابهم بنسبة ما حدث إلى من لا يتأتى منه، نسبه إلى كبير التماثيل وهو (كما يعلم ويعلمون) جماد لا حراك به، ذلك ليرشدهم إلى مكان الخطأ في عكوفهم على التماثيل، عبادة لها، وتقربا إليها، ويصرفهم عنها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويوحي إليهم بأنه هو الذي كاد لأصنامهم، وأنزل بهم ما يكرهون، وقد أكد ذلك بأمره إياهم أن يسألوا التماثيل عمن أصابهم بالتكسير والتحطيم إن كانوا يحيرون جوابا. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون (سورة الأنبياء، الآية: 63) وقد نجحت هذه الطريقة إلى حد ما، وأوجدت فيهم وعيا، فثابوا إلى رشدهم، وما كان في أصل فطرتهم، واعترفوا بأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم تماثيل لا تملك لنفسها نفعا، ولا تدفع عنها بأسا، وظلموا إبراهيم، عليه السلام، بصدهم عن دعوته، وإعراضهم عما جاءهم بهم من الآيات البينات على التوحيد، وإخلاص العبادة لله رب العالمين، لكنهم لم يلبثوا أن ركبوا رؤوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وارتكسوا في حمأة الضلال، والحيرة عصبية لما ورثوه عن آبائهم من الشرك والبهتان المبين. قال الله (تعالى): فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون? ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (سورة الأنبياء، الآيتان: 64،65). لقد ازداد الحق وضوحا، وبيانا، واستحكمت حلقات الحجة لإبراهيم على أبيه، وقومه، وحق له أن يضيق ذرعا من صدودهم، وأن يتأفف ضجرا من طغيانهم وشركهم، وأن ينكر عليهم ذلك إنكارا صارخا، ويرميهم بالخبال، وإلغاء العقول، قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم. أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (سورة الأنبياء، الآيتان: 66، 67) لقد أخذت الحمية الجاهلية للباطل من نفوس قوم إبراهيم، عليه السلام، مأخذها، وتمكنت منهم العصبية لطاغوت التقليد للآباء، والأجداد فيما أصيبوا به من الشرك، والانحراف عن الحق حتى ملكت مشاعرهم، ووجهت عقولهم، وأفكارهم إلى شر وجهة، وصرفتهم عن الحق المبين، والصراط المستقيم، وزينت لهم أن يتخلصوا من إبراهيم، عليه السلام، وينزلوا به أشد العقاب انتصارا لآلهتهم الباطلة، وانتقاما منه جزاء له عما صنع بها من تحطيم وتكسير. ويعلم الله أنه ما أراد بذلك إلا الخير لهم، وإخراجهم من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد: قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (سورة الأنبياء، الآية: 68) لكن يأبى الله إلا أن ينصر رسوله وخليله إبراهيم، عليه السلام، وأن يخذل أعداءه، وأعداء دينه، ويبطل ما كادوا به لأوليائه، فيبوءوا بالخسران المبين، إمضاء لسنته العادلة الحكيمة في أوليائه وأعدائه.. قال (تعالى): قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم? وأردوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين? ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين. ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين? وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (سورة الأنبياء، الآيات: 69 73) وقال (تعالى): إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد? يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (سورة غافر، الآيتان: 51،52) وقال (تعالى): سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (سورة الفتح، الآية: 23) نقلا من كتاب مذكرة التوحيد للشيخ عبد الرزاق عفيفي طبعة دار الوطن للنشر