أخي الحبيب .. قف قبل أن تنزلق في المعصية

أخي الحبيب .. إنما مثلي ومثلك كمثل رجل عداء، حصد البطولات تلو البطولات، والجوائز تلو الجوائز، وما تحداه أحد إلا هزمه، ولم يدخل سباقا إلا فاز فيه. وفي أحد المسابقات أخذ يجري ويجري .. وهو يحلم بالشهرة والأضواء. يجري ويجري .. وهو لا يفكر بالتعب، ولا يشعر بالنصب. يجري ويجري وهو لا يحس بالدنيا. يجري ويجري.. ثم آه !! يخرج من بين الناس رجل.. يقف في منتصف الطريق ويقول لهذا البطل .. قف!! يفاجأ هذا البطل بهذا الرجل. ويصرخ في وجهه.. كيف أقف؟! وأنا في نشوة الشباب ومقتبل العمر وزهرة الحياة. كيف أقف؟! كيف أقف؟! ورفع يده يريد أن يبطش بهذا الرجل الذي حرمه من سعيه خلف الملذات، وجريه وراء الشهوات رفع يده، ثم الله أكبر!! يشير هذا الرجل الطيب إلى البطل، ويقول له: انظر ماذا كان ينتظرك، لو أنك واصلت الجري، ولم تقف. هل تعرف ماذا كان ينتظره أيها الأخ الحبيب؟. كان ينتظره في آخر الطريق حفرة عميقة، ذات هوة سحيقة، فأكب هذا البطل على يد هذا الرجل يقبلها، ويشكر له نصحه ويحمد له شفقته. أخي الحبيب .. أنت هذا البطل العداء، وأنا ذلك الرجل الناصح الذي يقول لك: قف.. قف مع نفسك لحظة، حاسبها كما يحاسب الشريك شريكه، واقرأ هذا الكتيب، الذي كتبه شاب أعرض عن ذكر الله عشرين سنة من عمره .. غاص فيها في بحار الشهوات، وأرسى قواربه في شواطئ الملذات، وعاشها هائما في دياجي الظلمات. شاب ولج من المعاصي كل باب، وهتك منها كل حجاب، فصارت معيشته ضنكا، ولياليه سودا، وأحاطت به الهموم من كل مكان.. شاب عانى من الاكتئاب، والطفش، والحيرة، والتخبط، والفراغ كثيرا، وزمنا طويلا. فلما هداه اله، وأشرق نور الإيمان في قلبه، واتبع هدى الله ما ضل في هذه الدنيا بعد ذلك أبدا، واتسع صدره بعد ضيق، وانشرح قلبه بعد اكتئاب، وارتاحت نفسه بعد تخبط وحيرة فصعد المنبر يتحدث إليك .. وأمسك بالقلم يكتب لك ومد يديه يريد إنقاذك. فهل تسمع منه؟ قبل أن تعصي الله أخي الحبيب .. اسمع الله عز وجل وهو يقولك تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (الإسراء، 44) ويقول عز وجل: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب (الحج: 18) سبحان الله! هذا الكون كله، بكل صغير وكبير فيه، متوجه إلى الله عز وجل يسبحه، ويمجده، ويسجد له. هذه الجبال الشامخات تسجد، وهذه النجوم النيرات تسبح، وهذه الدواب العجماوات تلهج بالذكر. هذه المخلوقات العظيمة كلها تقف منكسة رأسها متذللة إليه، معترفة بالفضل له. ولكن يبقى في هذا الكون مخلوق صغير حقير ذليل، خلق من نطفة، فإذا هو خصيم مبين، هو يسير في واد، والكون كله في واد آخر. يترك الصلاة بالرغم أن الجبال والأشجار تصلي وتسجد. يترك التسبيح، بالرغم أن كل ما حوله يلهج بالذكر والتسبيح، إن هذا المخلوق هو الإنسان العاصي لله عز وجل. فاله أكبر ما أشد غروره! الله أكبر ما أعظم حماقته الله أكبر ما أذله! وما أحقره! عندما أراد أن يكون شاذا في هذا الكون المنتظم. كم عرضت عليه التوبة فلم يتب، وكم عرضت عليه الإنابة ولم ينب. كم عرض عليه الرجوع وهو في شرود وهرب من الله. كم عرض عليه الصلح مع مولاه، فلم يصلح، ولوى رأسه مستكبرا. أخي الحبيب .. عليك قبل أن تعصي الله عز وجل فتصل إلى هذا الوضع المزري، وهذه الحال المشينة، وتتردى إلى أسفل سافلين، بعد أن خلقت في أحسن تقويم. عليك أن تتفكر في هذه الدنيا، وحقارتها، وقلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها، وسرعة انقضائها. وتتفكر في أهلها وعشاقها وهم صرعى حولها، قد عذبتهم بأنواع العذاب، وأذاقتهم أمر الشراب، وأضحكتهم قليلا، وأبكتهم كثيرا وطويلا، سقتهم كؤوس سمها بعد كؤوس خمرها، فسكروا بحبها، وماتوا بهجرها عليك قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتفكر في الآخرة ودوامها، وأنها هي الحياة الحقيقية، فأهلها لا يرتحلون منها، ولا يظعنون عنها، بل هي دار القرار، ومحط الرحال، ومنتهى السير. عليك قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتفكر في النار وتوقدها، واضطرامها وبعد قعرها، وشدة حرها، وعظيم عذاب أهلها. تفكر في أهلها وقد سيقوا إليها سود الوجوه، زرق العيون والسلاسل والأغلال في أعناقهم، فلما انتهوا إليها فتحت في وجوههم أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع، الذي يقلق القلوب، ويذهب العقول، فتتقطع قلوبهم حسرة وأسفا. ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها، ولم يجدوا عنها مصرفا فيأتي النداء من رب العالمين: وقفوهم إنهم مسؤولون (الصافات: 24) ثم قيل لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون. أفسحر هذا أم أنت لا تبصرون. اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون (الطور: 15) عليك أن تتفكر في أهلها وهم في الحميم، على وجوههم يسحبون، وفي النار كالحطب يسجرون. لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش (الأعراف: 41) فبئس اللحاف وبئس الفراش، وإن استغاثوا من شدة العطش يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه (الكهف: 29) فإذا شربوه قطع أمعائهم في أجوافهم، وصهر ما في بطونهم، شرابهم الحميم، وطعامهم الزقوم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها. كذلك نجزي كل كفور (فاطر: 36) وهم يصطرخون فيها: ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل. أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير (فاطر: 37) عليك قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتفكر في الجنة، وما أعد الله لأهلها فيها، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما وصفه الله لعباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، من النعيم المفصل الكفيل بأعلى أنواع اللذة، من المطاعم، والمشارب، والملابس والصور، والبهجة، والسرور. تفكر في الجنة وتربتها المسك، وحصباؤها الدر، وبناؤها لبن الذهب وقصب اللؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، وأبرد من الكافور، وألذ من الزنجبيل. ونساؤها لو برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون، وشرابهم خمرة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وفيها حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكئون، وفي تلك الرياض يحبرون، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون. عليك قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتذكر من تعصيه تتذكر الله سيدك ومولاك. عليك أن تتذكر جلال الله عز وجل وجماله وكماله، وعزه وسلطانه وقيوميته، وعلوه فوق عرشه.. عليك أن تتذكر الله عز وجل.. قيوما .. قاهرا فوق عباده، مستويا على عرشه، منفردا بتدبير مملكته، أمرا ناهيا، مرسلا رسلهن ومنزلا كتبه، يرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويحب ويبغض، ويرحم إذا استرحم، ويغفر إذا استغفر، ويجيب إذا دعي، ويقيل إذا استقيل عليك أن تتذكر أن الله عز وجل أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأعز من كل شيء، وأقدر من كل شيء، واعلم من كل شيء، وأحكم من كل شيء، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، سواء عنده من أسر القول ومن جهر به، فالسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى نياط عروقها، وجاري القوت في أعضائها (ابن القيم في مدارج السالكين بتصرف) واعلم أخي الحبيب أنمما يعينك على ذلك ترك رفقاء السوء الذين قال الله فيهم : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون? تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون? ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون? قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين?ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فيها فإنا ظالمون. قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريقا من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين (المؤمنون: 103 109) فهل انضممتم إليهم؟ هل سرتم في طريقهم؟ فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون (الأعراف: 179) اشتغلتم بالاستهزاء بهم، والضحك عليهم، وكان الأولى أن تكونوا معهم، وتذكروا الله ربكم. ثم الجزاء يوم القيامة ماذا يكون؟ إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون (المؤمنون:110) حياتهم سخرية، وعيشهم استهزاء، ودنياهم لهو ولعب. ومنازلهم أرصفة الشوارع، ومجالسهم الفسق والفجور، وكلامهم الغيبة والنميمة، والفحش وتمزيق الأعراض، وشرابهم الدخان والمفترات والمخدرات، تعلو شفاههم الضحكات العالية، وتعلو أبصارهم الغشاوة، وفي آذانهم وقر عن سماع الهدى. بصائرهم مطموسة، وقلوبهم منكوسة، أعينهم متحجرة، وأفئدتهم معمية، تجد في مجالسهم كل شيء إلا القرآن، وتلقى على ألسنتهم كل شيء، إلا ذكر الله، يسمعون صوت الحق يصدح في بيوت الله، فيقدمون عليه اللهو واللعب. حياتهم كحياة البهائم، بل البهائم خير منهم. (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (سورة المؤمنون: 110) حياتهم طعام وشراب ولعب ونوم (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (سورة محمد: 12) لا يعرفون طعم الإيمان ولا لذة الصلاة. هربوا من الملك وهم عبيده، وبين يديه، وفي قبضته. الله أكبر!! والله إنه لعجب.. كيف يهربون منه، وهو الرحمن الرحيم؟! كيف يهربون منه، وهو الجواد البر الكريم؟! ما الذي فعله بهم حتى عصوه، ولم يطيعوا أمره ألم يخلقهم؟! ألم يرزقهم؟! ألم يعافهم في أموالهم وأجسامهم؟! كيف يهربون منه، وهو الجبار المهيمن؟! كيف يهربون منه، وهو القوي العزيز؟! كيف يهربون من بيته وهو يدعوهم إليه؟! كيف يفضلون الأرصفة والشوارع على بيته؟! كيف يلبون دعوة الشيطان، ويتركون دعوته؟! كيف يهربون من كلامه وكتابه إلى الصور العارية والأغاني الماجنة؟! أغرهم حلم الحليم؟! أغرهم كرم الكريم؟! أأمنوا مكر القوي العزيز؟! أأمنوا انتقام ذي الانتقام؟! ألم يخافوا أن يأتيهم ملك الموت وهم على المعاصي عاكفون؟! ألم يخشوا أن يأتيهم الموت وهم للصلاة مضيعون؟! أفأمنوا أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟! أفأمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله! إلا القوم الخاسرون. أخي الحبيب .. عد إلى ربك، واتق النار، اتق السعير إن أمامك أهوالا وصعابا، إن أمامك نعيما وعذابا، إن أمامك ثعابين وحيات، وأمور هائلات، والله الذي لا إله إلا هو، لن تنفعك الضحكات، لن تنفعك القصات، لن تنفعك الأغاني الماجنات، لن تنفعك الصور العاريات. لن تنفعك غلا الحسنات، والأعمال الصالحات. ألا وإني أدعوك إلى ترك رفقاء السوء، وشلل الفساد، وأبناء الأرصفة والشوارع والملاعب. ابتعد عنهم، ولا تقترب منهم، قبل أن تندم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. ثم سر في طريق الهداية، مع تلك الوجوه الطيبة النيرة، مع تلك القلوب البيضاء النقية، مع تلك الألسن النظيفة الطرية. أصحب أهل الخير والقرآن، انضم إليهم تشعر بطعم الحياة وحلاوة الإيمان، ويوم القيامة تحشرون جميعا إلى الجنات الطيبات بإذن الله. اسمع ما ثواب الإخلاء والأصدقاء المتقين يوم القيامة. يقول الله عز وجل: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون? الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين? ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون? يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون? وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون (الزخرف: 67 73) وقال صلى الله عليها وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه (أخرجه البخاري ومسلم. وانظر صحيح الجامع 3597) وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي (متفق عليه) وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء (صحيح الجامع) وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في صحيح الجامع. نقلا من كتاب أخي الحبيب قف بقلم إبراهيم بن عبد الله الغامد