الدولة الوطنية والتحولات العربية

على امتداد التاريخ الحديث والمعاصر فإن التحولات التي عاشتها الدولة بمفهومها القُطري أدت الى ظهور مفاهيم جديدة واولويات للنظام العالمي ومع ذلك ظل العالم العربي خارج مدار فلك التغيير، الا انه شهد في الاعوام الخمسة الماضية ما لم يشهده طيلة عقود طويلة. ففي لحظة تاريخية انتفضت الشعوب استجابة للتحديات الداخلية من استبداد، وفساد، وفقر. ومع ذلك ليس بالضرورة ان نتفق على مصطلح موحد لما جرى من حراك شعبي عام 2011، ولا يُهمنا ذلك كثيرا فما نعرفه ان تلك الانتفاضات اسست لمفصل تاريخي لا يمكن إغفاله.

تلك الثورات وما تلاها من فوضى وصراعات ما زالت محتدمة في بعض الدول الى يومنا هذا، اثارت تساؤلا مريرا هو: متى تستقر الاوضاع ويتحقق التغيير؟

بالتأكيد تصنع الثورات تحولاً ولكنها ليست بالضرورة تحقق إنجازاً، ولذا فالخروج من نفق ما يحدث الآن هو استيعاب إفرازات التجربة والرهان على وعي الشعوب، رغم كل ما نشهده من ظواهر سلبية مقلقة. ولعل التجربة التونسية أبرز برهان لهكذا تحول.

ومن باب الانصاف نقول انه بعد رحيل الاستعمار الغاشم عن بعض الدول العربية، نشأت أنظمة وطنية وأطلقت شعارات مؤثرة آنذاك لارتباطها بالأرض والحرية والاستقلال، لكنها ما لبثت أن عادت إلى ممارسة القمع، بمجيء أنظمة عسكرية كرست الاستبداد والدكتاتورية. وإن كنا قد تخلصنا من الاستعمار إلا أننا ارتهنا له مرة أخرى وبصيغ وأشكال مختلفة:

أبرز تحد تواجهه الدولة الوطنية في عالمنا العربي هو عدم او تأجيل الشروع في الإصلاحات الداخلية، مع ان مواجهة هكذا معوقات لا تتحقق الا بإرادة سياسية قادرة على احداث تغيير لا سيما في غياب المؤسسات الدستورية وضعف مؤسسات المجتمع المدني ووجود تيارات ممانعة ناهيك عن الازمات الاقتصادية.

لقد بدأ تهلهل النظام العربي الذي كان قائماً ما بعد عام 1967، وخلال معظم النصف الثاني من القرن العشرين جاء انهياره على مراحل. بات النظام الإقليمي متصدعا وتهاوت بعض الدول، عشرون في المئة من الدول العربية عاشت تجارب مريرة، وصُنفت بعضُها بالدولة الفاشلة لعدم وجود مشروع المواطنة كالسودان وسورية وليبيا والعراق واليمن، بينما صعدت قوى غير نظامية مثل حزب الله وجماعة الحوثيين وأخرى راديكالية إرهابية كالقاعدة وداعش، ما يكشف عن هشاشة تلك الدول من الداخل وافتقارها لإطار ينظم علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية ويحتوي صراعاتها الناشئة ويُدير ازماتها المحتملة.

عالمنا العربي يفتقر لتأسيس فكرة المواطنة التي تكرس التسامي فوق الاختلاف ولذا لا غرابة في ان نرى كل هذا الاحتراب والافتراق والنزاعات الحزبية والفكرية.

منذ بداية عصر النهضة، مرورا بعصر التنوير والى حاضرنا اليوم، ومن خلال رحلة طويلة وشاقة من البحث المعرفي/ النقدي، للفلاسفة الكبار توصلوا الى قناعة ان التسامح المجتمعي بعلائقه المعرفية والواقعية هو الخيار الأول والوحيد لقيمة الحياة. وقد أشار الى ذلك جون ستيوارت، وجون لوك، وروسو في (رسالة في التسامح) ومسألة الحقيقة المطلقة.

إن التحولات التي طرأت على عالمنا العربي كشفت عن أننا كعرب ما زلنا نعيش في دوامة الصراع حول كل شيء واي شيء بدءا من موقفنا من التراث ومرورا بعلاقتنا ب(الآخر)، ناهيك عن إشكالية الدولة المدنية والدينية، كما شاهدنا في دول الربيع العربي ما بعد الثورة.

هذه الأجواء في تفاعلات الخارطة السياسية للعالم العربي من انسداد للأفق السياسي كفيلة بأن تدفع باتجاه مسلسل الانفصال والتقسيم والتفتيت وقد لاحظنا بداياته على الارض، فبعد انفصال السودان كسابقة لافتة في تاريخنا المعاصر، وصلت حمم التشظي إلى تضاريس العراق واليمن وليبيا وسورية. وكلها كحالة سياسية تكشف عن عدم قدرة تلك الانظمة على إرساء المقومات الأساسية لوحدة دولة جاذبة ومنتجة.

إن القلق المتنامي يدور حول اشكالية قد تعرقل أي تقدم نهضوي للمجتمعات العربية حتى بوجود استقرار سياسي تتمثل في الصراع الطائفي الذي استشرى في الجسد العربي، وهناك مؤشرات على انقسامات عرقية ودينية ما يعيق التحول الديمقراطي.

تاريخيا نجد ملف الأقباط في مصر والتوتر السني العلوي الكردي في سورية، والاحتدام السني - الشيعي في العراق ولبنان، والصراعات القبلية المذهبية في اليمن وخلافات الاسلاميين مع بقية قوى المجتمع في ليبيا وتونس ومصر، ناهيك عن إقليم كردستان الذي يطالب بحقِّ تقرير المصير لأكراد العراق، والصحراء الغربية التي لم يحسم مآلها بعد. حتى الصومال البالغ الأهمية، من حيث الموقع الجغرافي والاستراتيجي، فالصراعات التي تقاذفته منذ أكثر من عقدين، تهدده الآن بتقسيم مهول.

السؤال المفصلي هنا: ما الذي دفع الأمور إلى أن تُصبح بهذا السوء؟

الحقيقة طالما أننا أمام حالة اجتماعية أو لنقل أنثروبولوجية فإنها تكشف لنا وبموضوعية، عن أن اساس المشكلة يتعلق بأمرين: ضعف المشروع التنموي، وعدم تأسيس دولة المواطنة. وهو ما جعل هذه المشكلات تطفو على السطح، فجاءت على هيئة مظاهرات واصطدامات واعتصامات وهي متصورة ان ارتهنا إلى الواقع.

من التحديات التي تواجهها الدولة الوطنية في العالم العربي أيضا الزيادة المأهولة في معدل النمو السكاني حيث يبلغ عدد سكان العالم العربي الآن حوالي 350 مليوناً، المتوقع أن يتجاوز 500 مليون نسمة بحلول عام 2050، ما يعني ضغوطا كبيرة على الموارد المحدودة.

هؤلاء يمثلون قنابل موقوتة ولديهم قابلية للقيام بسلوكيات احتجاجية عندما لا تتحقق مطالبهم بإيجاد فرص عمل وتحسين احوالهم المعيشية لا سيما وان ثلثي عدد السكان هم تحت سن الثلاثين.

قد يستمر العالم العربي في نمو اقتصادي محدود، لكن المؤشرات تقول ان مستويات البطالة قد تبقى الاعلى في العالم.

ان من يتأمل المشهد السياسي يلحظ أن هناك محوراً رئيسياً في المنطقة قد استعاد نشاطه وتدخلاته لعرقلة العملية السياسية في هذا البلد أو ذاك، بزعامة طهران ودمشق وحزب الله وجماعة الحوثي. هذا المحور يحاول توسيع نطاق الصراع وتوريط دول أخرى في المواجهة، ولذا فالملفات الملتهبة في المنطقة تسير كما يبدو باتجاه الأسوأ نظراً لتعقيدات أوضاعها الداخلية من ناحية، وعودة تدخلات المحور المتشدد من ناحية أخرى.

وفي ظل هذا الوضع لا يوجد مشروع عربي يواجه تلك المشروعات التي تحاك في المنطقة، وبالتالي العرب هم من يتحملون سبب إخفاقاتهم غير غافلين بالطبع التأثير الخارجي الذي يساهم بدور ثانوي. والمثير للدهشة ما يردده البعض الذين يبررون فشلهم المتكرر، بإلقاء اللوم على الآخرين من خونة وعملاء، وأنها المؤامرات وأجندة الاستعمار ومخططاته..الخ.

هذه الاسطوانة أصابتنا بالملل والسأم، بدليل انهم لم يطرحوا على أنفسهم سؤالاً حول أسباب هذا الفشل!:

تكون مواجهة التحديات بالبدء في عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي في العالم العربي وهي عملية ضرورية لان طبيعة النمط السياسي الحالي السائد في العالم العربي لم يعد مناسبا للتعاطي مع معطيات المرحلة الراهنة.

ان الإصلاح يهدف الى تعزير المواطنة وحماية حقوق الانسان ومحاربة الفساد واستقلال القضاء. وتبدو أهميته في أن العوائق التي كانت تحول بالأمس دون إرساء مشروعات الإصلاح في دولنا العربية لم تعد تجد اليوم ما يبررها، خاصة أن هنالك إجماعا برفض التدخل الأجنبي في شؤون المنطقة. ان العملية الإصلاحية تحتاج الى آليات وجداول زمنية مع أهمية الاخذ في الاعتبار مسألة التمرحل. وهذا لا يعني أن يتحرك المشروع بخطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء، وإنما يُبدأ به فورا ضمن برنامج عمل محدد من اجل الخروج من هذا الواقع المأزوم، وبالتالي هو يشمل المجال الديني والسياسي والثقافي ضمن بوتقة واحدة.

ختاما: العرب بحاجة الى إرادة سياسية تؤمن بعملية الإصلاح والانفتاح على الاخر، وتتحمل المسؤولية في الاعتراف بالأخطاء، وتعزز إطلاق الفكر الحر والمراجعة النقدية.

والمتابع لما يجري يجد ان العرب منقسمون فيما بينهم بينما إيران تهيمن على القرار السياسي في أربع عواصم عربية (بيروت، دمشق، بغداد وصنعاء)، ولا يزال الصراع العربي - الإسرائيلي يراوح في مكانه من دون حل، كما ان تركيا العثمانية لها مشروعها وتسعى لاستعادة بعض النفوذ الذي خسرته في العالم العربي قبل قرن من الزمان. وهذا كله من خلال سيولة سياسية غير مسبوقة، مع تراجع قوة الولايات المتحدة وتصاعد القوى اليسارية، بما في ذلك الصين وروسيا، والعرب من كل ذلك غائبون او مغيبون لا فرق!

بقلم: د. زهير الحارثي - الرياض