مونديال روسيا.. المستديرة الساحرة والمنجز الحضاري

مشاركة المملكة في المونديال العالمي إحدى وسائل القوة الناعمة التي تصل لشعوب العالم لتساهم في تغيير الصورة النمطية عنا، وتكون عنواناً عريضاً لما وصلت إليه بلادنا من حضارة وتطور وتنمية..

بعد يومين سوف نشهد انطلاق المناسبة العالمية الكبيرة في موسكو حيث تستضيف العاصمة الروسية مونديال كأس العالم 2018. اهتمام عالمي مهيب لكرة القدم التي لم تعد مجرد لعبة تسلية ولا وسيلة لتزجية الوقت، وعدا عن كونها الرياضة الأكثر شعبية في العالم فقد أصبحت عنواناً لمنجزات ومكتسبات الدول والشعوب، ومكوّناً من مكوناتها الثقافية، شأنها شأن الشعر والمسرح والرسم والأوبرا والموسيقى. أصبحت بمثابة معيار حضاري ومقياس تميز هذا المجتمع أو ذاك. هذه الاحتفالية تستمر شهراً كحدث جاذب ما برح يختلط فيه الثقافي بالسياسي بالاقتصادي، والإنفاق السنوي عليها يصل إلى عشرات المليارات دولار، ما يكشف عن صناعة ضخمة ومؤثرة في اقتصاديات الدول.

الكرة المستديرة المجنونة المصنوعة من جلد اخترقت مختلف مكونات المجتمعات بمن فيهم الكبار والنساء والأطفال، ولذا لم تعد كرة تتقاذفها الأقدام، بقدر ما أنها لامست مشاعر الناس وألهبت أحاسيسهم وجعلتهم أكثر تفاعلاً، لتصبح في أحيان كثيرة رمزاً للوحدة الوطنية لهذه الدولة أو تلك. كرة القدم الساحرة جمعت شعوب العالم بمختلف انتماءاتهم العرقية والاثنية والدينية لترسخ شكلًا من أشكال التواصل بين الحضارات والثقافات، وعلى الرغم من خضوعها لطابع تنافسي، وارتهانها كلعبة لقانون الكسب والخسارة وحالات تعصب وعنف طارئة إلا أنها تبقى دائماً ساحة خضراء لزرع بذور روح التعايش.

منتخبنا الوطني سيشارك في البطولة من ضمن المنتخبات العالمية، وسيواجه منتخب روسيا في مباراة الافتتاح، ومن المتوقع أن يشاهدها أكثر من مليار مشاهد، وهو حدث استثنائي وتاريخي لنا، كما أن حضور سمو ولي العهد الافتتاح ومباراة المنتخب مع روسيا هي رسالة دعم وتشجيع قوية لمنتخبنا، ونتمنى أن يقدم الصقور الخضر ما هو مأمول منهم أمام هذا الجمع الغفير. مشاركة المملكة في المونديال العالمي إحدى وسائل القوة الناعمة التي تصل لشعوب العالم لتساهم في تغيير الصورة النمطية عنا، وتكون عنواناً عريضاً لما وصلت إليه بلادنا من حضارة وتطور وتنمية.

عندما تزور روسيا تخرج بقناعة عن عراقة وتاريخ هذا البلد العظيم وحسن تعامل الشعب ومدى تقديرهم للمملكة. النخب لا تنكر احترامها لتاريخ بلادهم أي الاتحاد السوفيتي، ولكنهم يؤكدون انفكاكهم من قيوده وهاجسه. تغيروا فكراً وثقافة ورؤية وباتوا أكثر انفتاحاً وانسلخوا من مأزق الأيديولوجيا. أعاد الرئيس بوتين صياغة الأهداف الجديدة للسياسة الروسية وفق مسار له طابع قومي يسترد به توهج بلاده ما يعني إحلال التعددية القطبية في النظام الدولي الجديد وهذه قصة أخرى. على أي حال اليوم لا حديث للعالم سوى المونديال وأسئلة كثيرة عن روسيا والشعب الروسي والثقافة الروسية، بلاد شاسعة من أقاليم بثقافات متنوعة وألوان تراث تربطها منظومة حضارية فريدة.

صورة المشهد الكروي الكرنفالي أعمق من الحدث ذاته، حيث تتجلى فيه قيمة الإنسان وجمالية الحياة، وقد تقاربت الشعوب وأُلغيت القيود وهو حدث لا يتكرر إلا كل أربعة أعوام. أجناس وأشكال مختلفة من كل حدب وصوب ولكنهم بشر يجسدون الرؤية الفطرية لحياتنا، التي تعكس حقيقة ومكانة الإنسان الذي يتقاسم فيها مع الآخرين حق الوجود وكرامة الذات. عالمها المدهش هو بمثابة نسيج حيّ للثقافة الإنسانية، وجسدته مناسباتها لتشكل تواصلاً حضارياً باذخاً. كرة القدم تُعزز حقوق الإنسان فهي أبعد ما تكون عن الطبقية والعنصرية والنخبوية كونها تدعو للمساواة والعدل والتعايش. طبعاً هذا لا يعني أن البعض أصابه الهوس بها، ولذلك فهي كثقافةِ تشجيع لم تسلم من بعض المنغصات كبروز ظواهر سلبية كإشعال روح التعصب والتمييز العرقي والعنصرية في حالات معينة، إلا أنه من حسن الحظ أن هؤلاء لا يعبرون عن الخطاب السائد لدى أغلبية المجتمعات.

في ظل هذه الأجواء الاحتفالية يغمرنا التفاؤل بأن لاعبي الأخضر قادرون على إثبات أنفسهم ورفع رأس بلادهم بحضور سمو ولي العهد، فالمنتخب يبدو جاهزاً خاصة بعد مباراة ألمانيا وقد وفرت له معسكرات وأجواء مريحة، ومع حذرنا في عدم رفع سقف التوقعات إلا أننا نأمل أن تنعكس على أداء اللاعبين، ونرجو أن يكونوا في الموعد بإذن الله.

بقلم: د. زهير الحارثي - الرياض