التحول الوطني بين الطموح والغموض

اقترحت على الوزير الجديد توزيع كتيب على جميع الموظفين عن إستراتيجية الوزارة، وإدراج مواضيعها من أهداف ومهام وإجراءات تنفيذ في دورة تدريبية لمدة شهر بحيث يكون الالتحاق بها إلزامياً لأي رئيس قسم ومدير إدارة، ولأي موظف فوق المرتبة السابعة.

هذا ما قاله لي أحد المسؤولين، هادفاً بأن تكون إستراتيجية القطاع حاضرة دائماً في ذهن الموظف عندما يمارس عمله وتقليص الاجتهادات الفردية التي تحرف العمل عن خطه العام. فكثير من الموظفين لا يعرفون استراتيجية وزارتهم بسبب عدم وجودها أو أنها موجودة لكن غير متوفرة لديهم، أو حتى أنها متوفرة لكنها فضفاضة غامضة..

بالنسبة لتجربتي، فقبل نحو ثلاثة وثلاثون عاماً حين بدأت عملي الحكومي قيل لي أعمل كذا وكذا مثل زملائك الموجودين.. وخلال دقائق «درعمت» معهم بالعمل مستنداً على ما درسته في الجامعة من معلومات علمية متفرقة في هذا المجال دون منهج يضبطها مع طبيعة عملي. بعدها بأشهر عُينت مديراً، وكل ما أعرفه هو أن أشرف على تلك الأعمال التي قيلت لي، أما بقية الأمور فكانت من اجتهاداتي الفردية مع توجيهات المسؤولين الأعلى وتعميمات تصدر بين حين وآخر بلا استراتيجية.. كنت أظن بعدم وجود نظام مكتوب لطبيعة عملي، بل ممارسة العمل اليومي كما قيل لي واكتساب الخبرة على طريقة «التجربة والخطأ».

بالصدفة، بعد سنوات قرأت بنوداً تحدد المهام والصلاحيات والميزانية لموقعي الوظيفي.. يا للهول! أحسست حينها بمقدار السذاجة الاجتهادية التي أمارسها. بعدها بسنوات من العمل والتعليم العالي في الخارج اكتشفت أنني وكثير من الزملاء نعيش في عصر إداري سحيق.. فكانت ردة فعلي الانغماس في هوس البحث عن الدراسات حول «المنهجية» وفلسفتها..

صارت عندي «عقدة» أسقطها على الآخرين، فحين أقابل مسؤولين (زملاء أو أصدقاء) أزعجهم بالأسئلة كمحقق: هل قرأتم مهامكم وخطة عملكم؟ هل تعرفون استراتيجية مؤسستكم؟ هل الأهداف واضحة ومحددة ومتسقة مع بعضها وقابلة للتنفيذ والقياس؟ هل تعرفون كيف توضع الاستراتيجية؟ ولا تزال نسبة كبيرة تجيب بالنفي. لكن هذه النسبة تتقلص مع الوقت، فعندما كنت أسألهم قبل عشرين عاماً كانت الغالبية تضحك.. البعض يظن أنه لا داعٍ لذلك مكتفين بالتوجيه الشفوي من كبار المسؤولين، البعض مثلي سابقاً لم يكن يعلم أن هناك خطة مكتوبة، البعض يظن أنها للديكور، وآخرون لم يفهموها.. وهلم جرا. آنذاك كانت الثقافة الإدارية فن ذاتي تعتمد على منهج الارتجال.. كان المطلوب من المدير الناجح حسن تصريف الأعمال «الذهانة»، وتذليل صعوبات العمل «السنع».. وكان الأهم ضبط الحضور والانصراف على موظفيه (مراقب) حتى لو كانوا نياما! إضافة لتطبيق التعميمات التي قد لا تكون متسقة مع بعضها..

كل ما تقدم كان مثالاً طويلاً لتوضيح جذور مشكلة لدينا في منهجية العمل.. أما الآن فهناك تزايد في الوعي بضرورة وجود منهج موضوعي: إستراتيجية أو خطة عمل، حتى أصبح مصطلح «إستراتيجية» أحد أكثر المفردات تداولاً في العمل، وحرصت الحكومة على التشديد عليها. لكن ثمة صعوبات أولية في البناء النظري لكل خطة قبل تنفيذها وهي: الوضوح والتحديد، إضافة لقابليتها للتطبيق.

ذروة الفكر التنظيمي وصل لما اطلعنا عليه مؤخراً عن ورشة عمل «الخطة المقترحة لبرنامج التحول الوطني» التي رعاها بشفافية وكفاءة سمو ولي ولي العهد وأبدى ترحيبه بأية ملاحظات، بمشاركة جموع تمثل شرائح مختلفة من المجتمع والحكومة والقطاع الخاص. الخطة نالت اهتماماً إعلامياً واسعاً ومُرَحِبا، وهي تستحق التأييد لأنها طموحة جداً..

الكثير من الاقتراحات والملاحظات دارت حول الخطة، إنما أكثر ما لفت انتباهي، ربما بسبب عقدتي القديمة، هو تعبير أغلب من ناقشت معهم من الموظفين والمثقفين عن غموضها، من نواح مختلفة أهمها: طريقة تنفيذها، تقييم إنجاز كل قطاع وقياس أداء الموظفين، تحديد الأولويات واتساق الأهداف العامة مع الأهداف التفصيلية، توفير الجهاز القادر على الإشراف والكفاءات الفنية للخطة، كيفية الاستثمارات التي قيل عنها بالمليارات ومدى قدرة القطاع الخاص، إيرادات الدولة غير النفطية.. الخ. ربما ذلك يرجع إلى النقلة النوعية الكبرى لهذه الخطة مقارنة لما اعتادوا عليه، أو ربما بسبب عدم اكتمال المعلومات عنها فهي ليست في مرحلتها النهائية، وما زالت هناك ورش عمل أخرى سيتم عقدها، كما أنه من المتوقع أن تكون هناك حزمة إصلاحات أخرى رديفة..

لتخفيف هذا الغموض، أقترح ثلاثة أساليب: التبسيط المنهجي، المأسسة، الشفافية. من المهم أن يكون المنهج محدداً بسيطاً مختصراً، فالزيادة أخت النقص؛ والمهارة ليست في التطويل بل في الاختصار الواضح، وأحد الاختصارات الرائعة في تعريف الاستراتيجية هي أنها «ترتيب الأولويات» رغم كل التعقيد الذي يثار حولها. ولاحقاً بعد أن تكتمل خطة التحول الوطني من المهم إصدار كتيب يختصرها موضحاً أهم جوانبها، ويتم توزيعه على كافة الموظفين، ويتوفر لكافة المواطنين إلكترونياً أو ورقياً.

المشاركة الفعلية الدائمة من المؤسسات المدنية والحكومية هي، أيضاً، أحد أهم وسائل توضيح هذه الخطة وتفعيلها، ولا يكتفى بالمشاركات الطارئة في ندوات دورية يفاجئ بها المشاركون دون تحضير. أما أفضل وسائل المشاركة فهي الشفافية؛ ورغم أن مقترح الخطة أكد على الشفافية وكررها وطبقها فعلاً، فالشفافية ليست فقط توفير المعلومات بل أيضاً وضوحها. الأبحاث الحديثة تشير إلى أن هناك ثلاثة ركائز أساسية للشفافية الإدارية: الإفصاح عن المعلومات، الوضوح، الدقة (سكناكبرج وتوملسون، 2014).

إذا كانت الشفافية تخلق مشاركة يومية عن طريق الإعلام والجماهير، فإن الإنترنت وسع من دور الشفافية حتى صار بعض الباحثين يرى أنها أصبحت أهم عناصر الديمقراطية التشاركية أكثر من الانتخابات التي تحصل كل بضع سنوات، لأنها تسهل على الآخرين بشكل يومي معرفة ما يتم إقراره من تشريعات وإجراءات تنفيذها، ومن ثم تمنحهم القدرة على المساءلة والاقتراح.. الديمقراطية الحديثة تبني على هذه المشاركة من الناس ووسائل الإعلام عبر الشفافية، كما تؤكد الأبحاث الأخيرة (دراسة سوزان مولر وآخرون).

«لا يوجد أكثر عملية من النظرية الجيدة».. تلك من المقولات المشهورة التي صارت مثلاً يُضرب في العلوم التطبيقية وليس النظرية فقط، وهي للعالِم كورت لوين. إذ يُشترط بالنظرية الجيدة أن تطرح أفكاراً واضحة ومحددة تستوعب الوضع الراهن وأزماته، وتحمل مقترحات مناسبة للتعامل معه..

بقلم: د.عبد الرحمن الحبيب - "الجزيرة"