هل يجوز أن نحزن على باريس؟

هذا سؤالٌ لا يقلّ ألماً عن الهجمات الدامية على باريس، والتي فتحت الشهية من جديد لنقاش عام وشامل وصارم لداء الإرهاب المقيت. ينبغي التنبيه أن سرطان الإرهاب لم يتوقف أبداً عن نخر جسم العالم من «وسطه» الموبوء دوماً، لكننا لا نفطن لأهمية العلاج الكيماوي لهذا السرطان إلا حين تهاجِم خلاياه أطرافَ الجسد... اليسرى أو اليمنى خصوصاً!

باريس، مدينة الفن والجمال، تستحق هذا القلق العالمي وهذا الحزن الكوني. ولا مبرر للإحجام عن الحزن عليها وعلى ضحايا الإرهاب فيها بحجة أن هناك من يستحق الحزن أكثر، فنفوسنا لسوء الحظ مليئة بحزن يكفي لتغطية كل الأماكن الموبوءة بالوحشية. نعم من العيب أن يحزن البعض على ضحايا باريس فقط من دون سواهم، لكن من العيب أيضاً أن نمتنع عن الحزن الباريسي تحت أي ذريعة، فالوقوف ضد موت الأبرياء هو (خُلُقٌ بلا حدود).

تنفتح الأفواه كلها مجدداً، ولفترة محدودة بالطبع وكالعادة، لمناقشة ملف الإرهاب. في الحقيقة، قلّة فقط هي التي تناقش، أما البقية فهي فئة تشتم وفئة تشمت، ولأن مفعول الشتائم والشماتة لا يطول فإن الملف يُغلق مجدداً من دون الوصول إلى نتيجة حتى تُفتح الجروح من جديد.

(هل الإرهاب فعل أم رد فعل؟) سؤالٌ قد يقرّبنا كثيراً من التشخيص، وليس من العلاج الذي أراه بعيداً!

هل الإرهاب نوعٌ واحد فقط، هو إرهاب الجماعات المتطرفة، أم أنه نوعان: إرهاب الجماعات وإرهاب الحكومات؟ وأيهما (الفعل) وأيهما (رد الفعل)؟!

اختلافنا حول هوية صُنّاع الإرهاب لا يجب أن يقودنا أبداً إلى الاختلاف حول هوية ضحايا الإرهاب، فالفتاة السورية التي ماتت تحت أنقاض بيتها بفعل القنابل الروسية أو الأميركية أو الفرنسية، هي والشاب الفرنسي الذي مات تحت أنقاض ملعب أو مسرح بفعل انتحاري عربي أو أعجمي، كلاهما سواء في البراءة واستحقاق الحزن.
انشغالنا بتصنيف ضحايا الإرهاب سيشتت جهودنا الذهنية والوجدانية عن تحديد هوية ممارسي الإرهاب.

وسؤالنا عن الفعل ورد الفعل في حلقة الإرهاب لا يستهدف التخفيف من جرم أحدهما، ولكن يستهدف تحديد مسار التشخيص فالمعالجة.
معركة الإرهاب حربٌ بين المتاجرين بالدين والمتاجرين بالسلاح، والطريقة الوحيدة لإيقاف هذه المعركة القذرة هي بإيقاف المتاجرة من الجهتين، أما الظن بأن إيقاف المتاجرة من طرف واحد فقط سيكفي لوقف المعركة فهو وهمٌ مضلّل.

لنتخيل أننا نجحنا حقاً في وقف المتاجرة بالدين، من سيموّل (جيوش القطاع الخاص) ومصانع السلاح التي أصبحت تحقق إيرادات وطنية تتسابق عليها الدول (المتقدمة) وتصنع فارقاً ملموساً في ميزانياتها، ما جعل وزارات الدفاع لديها تتحول إلى وزارات هجوم؟!

هل نحن قادرون حقاً على لجم وحشية التكسّب، المنظّم وغير المنظّم، من وراء دماء الأبرياء المسلمين وغير المسلمين؟

هل «الضمير العالمي» الذي استطاع القضاء على صدام حسين وسحْق جيشه وتغيير وجه العراق كاملاً عاجز (حقاً) عن إزاحة بشار الأسد الذي يقتل شعبه منذ سنين، أم أن المصالح هناك غير التي هنا؟!

هذه المعايير الانتهازية لإدارة الصراعات في منطقتنا هي الوقود المغذي للإرهاب في منطقتنا وفي مناطق الآخرين.

نحن لا نصنع الإرهاب، نحن في الحقيقة نعيد تصنيعه، وهذا التفصيل لا يُخلي مسؤوليتنا لكنه يجعلها مشتركة.

وفي سبيل إزالة اللبس عن قناعاتنا غير المنجرفة مع هؤلاء أو ضد أولئك، يجب أن نقف سوياً وبإيمانٍ تام ضد مسوغات الإرهاب كافة، سواءً إرهاب الجماعات أو الدول، إرهاب الدين أو الرأسمالية، وأن نتعاطف مع ضحاياه الأبرياء، سواء كانوا عرباً أو غير عرب... مسلمين أو غير مسلمين. بهذه المنظومة الأخلاقية غير القابلة للتجزيء، يمكننا إغلاق كافة ذرائع العنف.

بقلم: زياد الدريس - الحياة