استئناف الحضارة بالعلمي أم بالأدبي؟

بالعودة إلى الحديث عن (استئناف الحضارة)، سأتناول اليوم إحدى إشكالياتنا الإجرائية المبنية على تصوّر سائد وخاطئ في الوقت ذاته، يرتكز على الظن بأن الحضارة تتحقق من خلال زخم الاختراعات والكشوفات العلمية فقط. وبناءً على هذا الظن المتوارث أصبحت المجتمعات العربية تدفع بنوابغها وطلابها المميزين والمتفوقين إلى الانخراط في (القسم العلمي) من المرحلة الثانوية، ثم الانضمام إلى الكليات العلمية/ التجريبية في المرحلة الجامعية، على اعتبار أن خريجي هذه الكليات هم الذين سيحققون الفارق في المعادلة الحضارية المختلّة!

من المهم تأكيد أن سوق العمل هي المحرِّض الأكبر على هذا الخلل المعرفي، إذ لو أن طالباً نابغاً متفوقاً اتجه لدراسة علم الاجتماع أو الإدارة أو التاريخ فمن الذي سيستقطبه للعمل عنده، ومن الذي سيمنحه، مهما كان متفوقاً، الامتيازات التي سيحصل عليها خريجو الأقسام والكليات العلمية؟!

أتناول هذه الجدلية الثنائية بطمأنينة شخصية مُتّكأها الحياد، إذ إن تخصصي في المرحلة الثانوية (علمي)، وفي الدراسة الجامعية أكملت مساري في إحدى الكليات العلمية، ثم في الدراسات العليا اتجهت إلى حقل الدراسات الإنسانية، وما زلت منتفعاً في مواقفي وآرائي من ثنائية التخصص.

حديثي هنا لا يعني نكران التأثير العلمي والوزن الاعتباري للمخترعين في المجتمعات المتحضرة، لكن يجب أن نعرف أو نعترف بأن الحضارات كلها لم تقم يوماً على أكتاف الذين يعملون في المعامل. نعم، إن الذين يعملون داخل المعامل يصنعون ما يهيئ للحضارة، لكن الذين خارجها، وأعني بهم من يُنظِّرون لحوكمة المجتمعات والبلدان وللإدارة السليمة للموارد المالية والبشرية، هم القادرون فقط على إحسان إدارة ما يخرج من المعامل وحُسن توظيفه لخدمة الإنسان وترقية المجتمع، لا لترقية الباحث فقط!

ولست عاجزاً عن التذكير بأن معظم البلدان العربية لديها مؤسسات علمية كبيرة، ولديها اختراعات وبراءات اختراع، لكن إذا لم تُوظَّف هذه الجهود العلمية توظيفاً إدارياً رشيداً لخدمة الإنسان والمجتمع بالشكل الصحيح فإن الحضارة لن تأتي أبداً.

الثورة الأوروبية نهضت بشكل أساسي على جهود الذين أسسوا لقواعد بناء الدولة المعاصرة وتكوين المجتمع وفق مفهوم الدولة الحديثة. الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا هم الذين استطاعوا أن يخرجوا بأوروبا من عصر الانحطاط إلى عصر النهضة.

أما الولايات المتحدة الأميركية التي تقود وتسيطر على العالم الآن، فقد قاد نهضتَها أبناؤها (المتفوقون والنوابغ) في مجال الإدارة والاقتصاد، مع استفادتهم من إرث النهضة الأوروبية في قواعد المعرفة الإنسانية.

من المهم أن أؤكد مجدداً، ومنعاً للّبس، أن حديثي هنا لا يدعو إلى التقليل من قيمة البحث العلمي في الحقول التجريبية، ولكنه يهدف إلى زيادة الاهتمام بحقول الدراسات الإنسانية واستقطاب الكوادر النابغة إليها.

مسارنا في هدف استئناف الحضارة، يُلزمنا أن نعيد النظر في بعض القواعد المتوارثة منذ عقود من دون تمحيص. وأن نؤمن من دون تردد بأن: بناء الإنسان قبل بناء المعامل.

بقلم: زياد الدريس - الحياة