قتلى المرور في ذمة من؟

أثارت فاجعة مدير جامعة الجوف - عظّم الله أجره ورزقه الصبر والثبات - الذي فقد خمسة من أبنائه في حادثة مرورية آلامنا، وكأن فاجعته جاءت رمزاً يختصر الحوادث التي تقع بيننا كل يوم، وبلغت في السعودية 17 قتيلاً في اليوم، أي أن إنساناً يموت كل 40 دقيقة بسبب حادثة طريق، هذا غير المصابين الذين بلغوا أكثر من 68 ألفاً سنوياً، كما تسببت هذه الحوادث في خسائر مادية بلغت 13 بليون ريال في العام، أي أن البلاد لو تعرضت لحرب فلن تكون خسائرها كما في حوادث المرور، وكما قال العقيد زهير شرف أحد المسؤو‍لين في المرور إن عدد القتلى الـ 86 ألفاً فاق ضحايا حروب الأرجنتين، وحرب الصحراء الغربية، وحرب الهند وباكستان. وحرب الخليج، وحرب نيبال الأهلية، وحرب استقلال كرواتيا التي بلغ مجموع ضحاياها 82 ألف شخص.

حادثة فقدان خمسة أبناء من عائلة واحدة تضعنا في مواجهة الألم المضاعف، لنتذكر كم مرة دخلنا منزل قريب أو صديق أو جار لنقدم التعازي في شاب أو شابة، والد أو والدة طفل أو طفلة، راحوا ضحية حادثة مرورية، وإن كان أبناء مدير الجامعة قتلوا في طريق بري، فإن خمسة شبان من عائلة واحدة قتلوا وسط حي، حيث خرجوا للبقالة القريبة، فاصطدم بهم مخمور، وعاش يقتله الندم.
هؤلاء القتلى في ذمة من دمهم؟ وهل يكفي أن نسلم بأن الحوادث المرورية التي تحدث كل يوم هي أقدار ومسؤولية فردية، سببها التهور أو تجاوز السرعة؟ ألا تعد هذه المناسبات التي نفقد فيها شباباً مناسبة لإطلاق نداء وحملات لوقف هذا النزف اليومي؟

الطرق وتأمين السلامة فيها مسؤولية ترعاها الدولة، فتعبّدها وتضع القوانين التي تنظمّها، وتضع فوقها رقيباً يحرس تمامها، لكن الطرق بفوضاها وانعدام صيانتها وتخطيطها وغياب الرقابة الصارمة عليها، ساهمت في خلق فوضى، لهذا صار كلٌ يلقي بالمسؤولية على الطرف الآخر، فالحكومة تلوم الناس، والناس تلوم الحكومة، إلا أن هذه الفوضى خلقت «وحوشاً» تضع مصالحها فوق مصالح الجميع، طالما أن من يحمي مصلحة الجميع غائب.

لماذا في الدول المتقدمة عندما تقود سيارتك ترى الجميع يقدمك على نفسه، ويمنحك حق المرور؟ لأنه ببساطة يجد نفسه شريكاً في الطريق، لا قاطعاً له ولا ضحية، وشريكاً مع الحكومة التي قامت بواجبها، ومع السائق الآخر وعابر الطريق. في أحد شوارع أورلاندو أردت أن أخرج من طريق فرعي إلى الطريق العام، فلم تتوقف لي السيارة التي تحاذيني في الشارع العام، بل توقفت ثلاث سيارات كانت تعبر الطريق، فما الذي يتصف به هؤلاء ولا نتصف به نحن؟ نحن الذين لا نختار لأنفسنا إلا صفة المسلمين، وخير أمة أخرجت للناس، فهل من مواصفات خير أمة أخرجت للناس أن تضيق ببعضها ذرعاً، وتتسبب في قتل 17 إنساناً كل يوم؟

هل الناس وحدهم المسؤولون عن تشكيل أخلاق المرور، أم أنها الدولة من تجعل الناس مضطرين للتعامل بأخلاق ليست من أخلاقهم، حين يجدّ الجد ويفوق الصبر الحدّ؟
ركبت مع كثير من أقاربي في السعودية، مثقفين كانوا أم بسطاء، متعلمين تعليماً عالياً أم أميين، وبعضهم درس في دول متقدمة وعاد يتغنى بتقدمها، لكنهم حين يقودون سياراتهم يصبحون جميعاً ذات الشخص المتهور العنيف الأناني، وحين يدخل علينا قريب للتو عاد من مشوار، فهو يحتاج لوقت حتى يتخلص من ذلك الوجه الذي عاد به، وكله قرف وشكوى من هذه الفوضى، والجحيم الذي عاشه في مشوار لا يتجاوز نصف ساعة.

نحن نعجب ونفزع حين يذهب شاب ضحية المخدرات أو الإرهاب، أو ضحية مرض، لكننا نتعامل مع ضحايا الطريق مثل عادة ألفناها، نحزن قليلاً ثم ننسى، لأنه ليس بيدنا حيالها شيء، وهذه كارثة عظمى، فلو كان الأمر بيدي لجعلت بوقاً يصفّر في كل المدينة من دون توقف، حتى يعجز الناس عن النوم ليالي طوالاً، فيخرجون إلى أبواب المسؤولين ليجدوا لهم حلاً. 

نقلاً عن "الحياة"