الأولويات في زمن متسارع

تبدأ السنة، وما هي إلا إغماضة عين حتى نفاجأ بانتهائها، لنستقبل سنة جديدة، نبارك لبعضنا فيها، ثم لا نلبث حتى ندخل في أخرى، وهكذا دواليك، أما الشهر فتحوَّل إلى ما يشبه الأسبوع في سرعة انتهائه، وهكذا بالنسبة للأسبوع الذي لا نكاد نبدأ العمل حتى نجد أنفسنا وقد دخلنا في نهاية الأسبوع، هل قلت أيام السنة أو الشهر، والأسبوع، وهل نقصت ساعات اليوم؟ كلّا، لكن المشاغل والأحداث من حولنا في العالم أضفت على حياة الناس طابعاً مختلفاً حتى لم نعد ندرك سرعة انقضاء الوقت ونفاده من أيدينا، وهذا ما أخبر به المصطفى - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - حيث أخبر أنه في آخر الزمان يتسارع الوقت وتنصرم أيامه ولياليه دون أن نعي ذلك. 

تقابل شخصاً بعد طول انقطاع بينكما قد يصل إلى سنين ومع ذلك قد يظن كل واحد منكما أن آخر لقاء قد تم قبل أشهر وذلك لأن سرعة حركة عجلة الزمن زادت وتيرتها، وتنوع أنشطة الحياة وكثرتها، وابتعاد الناس عن حياة الرتابة القاتلة، إضافة إلى كثرة الأحداث سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو العالمي، وفداحة هذه الأحداث وقوة تأثيرها في مشاعر الناس، خاصة مع توافر وسائل الاتصال التي تنقل الحدث أولاً بأول، وبالتفاصيل الدقيقة، كل هذه وغيرها لها إسهام كبير في عدم الإحساس بتغير الزمن. 

المراقب للحياة المعاصرة يجد فيها الكثير مما يشغل تفكيره ومشاعره، لذا يكون الوقت قصيراً، أو هكذا يظن الناس، لذا نجد الشكوى والتذمر من الناس من أنهم لا يجدون وقتاً للقيام بالتزاماتهم الاجتماعية كزيارة الأقارب أو زيارة المرضى.

هذا الوضع يمكن تشبيهه بمراسل قناة فضائية يغطي حرباً، وفي ساحة المعركة يجد نفسه مشتتاً، وغير قادر على التركيز، فانفجار هنا، وانفجار هناك، وطائرة تقصف، وصاروخ يسقط، وقتلى يقعون، وجرحى تسيل دماؤهم، لذا لا يدري ما ينقل للمشاهدين، فالأحداث تتسارع، وكل حدث يفوق في قوته وبشاعته الأحداث الأخرى.

مع الربيع العربي وما صاحبه من اضطرابات أمنية في الدول التي حدث فيها، وعمليات القمع والقهر التي واجهت بها الأنظمة الناس، كما حدث في ليبيا، وكما يحدث على مدار الساعة في سورية من قتل وتدمير وتهجير، يجد المهتم بالشأن العربي العام من كتاب الصحف أو مستخدمي وسائط التواصل الاجتماعي التي أصبحت منابر إعلامية متحررة من قيود البيروقراطية نفسه غير قادر على تحديد المهم، فقد يختار موضوعاً ليكتب فيه، وما إن يشرع في كتابة الموضوع حتى يحصل حدث أهم وأقوى جذباً. 

حدث معي خلال هذه السنوات مرات عدة أن اخترت موضوعاً، أو بالأحرى فرض نفسه لأهميته في حينه لينشر في زاويتي الأسبوعية، وما إن أفرغ من كتابته حتى يحدث ما هو أكبر منه وأعظم ثم أضطر إلى تغييره، لأن الموضوع الأول أصبح من الماضي ولا قيمة للكتابة في موضوع مضى عليه أسبوع أو ما يقارب، خاصة أن وسائل الإعلام الحديث لم تترك مجالاً للتريث والانتظار في تناول المواضيع. 

إن سرعة الأحداث وتنوعها وجسامتها، لما لها من تأثير في لحظتها تضفي عليها أهمية تجعلها محل التركيز والاهتمام والتفاعل معها ليس إعلامياً فقط، بل على المستوى النفسي والعقلي، لكن الاهتمام لا يلبث أن يزول بسرعة، إذ قد يحل محل الحدث حدث أكبر وأضخم منه. لقد تحقق ما تنبأ به نبينا الكريم ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ حيث إن الأحداث يرقق بعضها بعضا، وهذا ما نشاهده على أرض الواقع، حيث نتفاعل اليوم مع حدث جسيم ومؤلم لكن لبرهة ليتحول اهتمامنا بحدث آخر أعظم منه ويكون الحدث الأول في خانة النسيان.




نقلاً عن "الاقتصادية"