(أم قيس) بلدة أردنية تحكي معالمها قصة مستمرة منذ آلاف السنين

في بلدة (أم قيس) الأردنية المعروفة في التاريخ القديم باسم (غادارا) يغمر الزوار شعور بالعظمة والنشوة أثناء تجوالهم بين المعالم والآثار التي خلفتها الحضارات القديمة التي ازدهرت وسادت هناك منذ زمن مضى. وتروي آثار هذه الحضارات الإنسانية قصة العابرين الذين دخلوا أبواب هذه المنطقة واستقروا فيها ابتداء بالمقدونيين، إذ مر بها الإسكندر المقدوني أثناء فتوحاته في الشرق، كما شهدت احتلال الرومان والبيزنطيين للمنطقة العربية التي حررها المسلمون بقيادة خالد بن الوليد، وتعاقب عليها الأمويون والعباسيون والعثمانيون. وتقع (أم قيس) على الجانب الشرقي من هضبة مثلثة في منطقة جبلية عالية ترتفع 378 مترا فوق سطح البحر، وتشرف على وادي الأردن الشمالي وهضبة الجولان السورية وبحيرة طبريا الفلسطينية التي يمكن رؤيتها بوضوح تام، وفي الأيام الصافية يمكن للزوار مشاهدة جبل الشيخ الذي أخذ اسمه من الثلوج البيضاء التي تغطي قمته طيلة العام وكأنها عمامة شيخ. كما يرى الزائر في الأيام المشمسة جبال دمشق الفيحاء، وجزءا من وادي اليرموك الذي دارت فيه معركة اليرموك الخالدة، وانتهت بانتصار العرب المسلمين على الروم، ويسمى أحد أودية تلك المنطقة (وادي خالد) تيمنا بالقائد العربي المظفر خالد بن الوليد، وأثار هذا المنظر البديع بجماله وسحره دهشة الإغريق، كما دفعهم موقعها الاستراتيجي إلى استيطان (غادارا) فأقاموا فيها قلعة الاكروبولس نظرا لموقعها الاستراتيجي، إذ تمر بها عدة طرق تجارية كانت تربط بين سوريا وفلسطين والأردن. وفى عام 63 قبل الميلاد حررها القائد الروماني (بومباي) من الإغريق (اليونان)، وضمها إلى حلف (الديكابولس) الذي أقيم أيام اليونان والرومان، وكان يضم عشر مدن في المنطقة الواقعة عند ملتقى حدود الأردن وسوريا وفلسطين، والذي كان يضم عشر مدن منها جرش وأميلا أو ( طبقة فحل) في وادي الأردن، ومدينة (أم الجمال) شمالي شرق الأردن. وإلى الشمال الشرقي من أم قيس تقع مدينة (أبيلا) التي أقيمت فيها هياكل الرومان وكنائس البيزنطيين ومساجد العرب المسلمين وسط حقول القمح والزيتون. وتؤكد الحفريات الأثرية في هذا الموقع أنه كان مأهولا منذ 5000 عام، وأنه ظل عامرا بالناس منذئذ وحتى أيامنا هذه. وبعد انضمامها إلى الديكابوليس تطورت (غادارا) بسرعة وشهدت نهضة اقتصادية ومعمارية وثقافية بلغت أوج ازدهارها في القرن الثاني بعد الميلاد، حيث انتشرت فيها الشوارع المبلطة والهياكل والمسارح والحمامات حتى أن (ميلاغروس) شبهها بمدينة أثينا، وهي شهادة لهذه المدينة أنها أصبحت مركزا للثقافة الهيلينية (اليونانية) في الشرق الأدنى القديم. ونظرا لخصوبة أرضها وأمطارها الوفيرة ازدهرت هذه المدينة اقتصاديا وفكريا، وتميزت بجوها العالمي، وأمست موئلا للفلاسفة والكتاب والفنانين والشعراء، ومنهم (مينيبوس) شاعر الهجاء، و(ميلاغروس) الشاعر الساخر، والخطيب الفصيح (ثيودوروس)، إلا أن مكانة (غادارا) تدهورت، ولم تعد منارا للعلم، وبدأت بالتقهقر خلال القرن السادس الميلادي. وفي عام 636 دخلتها جيوش الفتح الإسلامي إثر الحرب الحاسمة مع الروم، لكن تلك المدينة لم تشهد أي أثر للتدمير بسبب الوصية الشهيرة التي تقطر إنسانية ورقة ورحمة، والتي وجهها الخليفة ابو بكر الصديق الى قادة جيوش الفتح الإسلامي. ورغم الاضطرابات التي شهدتها على مدى تاريخها الطويل، بقيت المدينة متألقة إذ لا يزال قسم كبير من معالمها الحضارية قائمة حتى الآن، ومنها المسرح الروماني الغربي والممرات المقنطرة وصفوف المقاعد المبنية من حجر البازلت الصلب وصف مقاعد المسرح المحفورة والمخصصة للشخصيات البارزة في الأيام الخوالي. وفي الجهة المقابلة للمسرح يقع الشارع المبلط والذي يرجح أنه كان المركز التجاري للمدينة، وبالقرب من مسرح البازلت الأسود ثمة شرفة تضم ساحة وكنيستين صغيرة وكبيرة. وإلى الغرب من الشرفة وعلى امتداد الشارع الغربي بقايا مجمع الحمامات الرومانية و(النيمغايوم) وهي نافورة ذات أحواض ومحاريب تزينها تماثيل صغيرة من الرخام، ويعتقد أن هذا النصب التذكاري يرمز لآلهة المياه القديمة. وعلى مسافة غير بعيدة، تشاهد بقايا ما كان ذات يوم مضمارا لسباق الخيل وبقايا المسرح الشمالي وهو أكبر المسارح الثلاثة التي كانت في (غادارا)، ويقوم على رأس التلة بجانب متحف أم قيس. ويقع هذا المتحف في بيت تملكه عائلة (الروسان)، وكان في سالف الأيام منزلا للحاكم العثماني، وتعرض فيه الآن للزوار والسياح التماثيل وقطع الفسيفساء والعملات المعدنية التي يتم العثور عليها نتيجة عمليات الاستكشاف المستمرة في هذه المنطقة الغنية بالآثار. ويعتبر المسرح الروماني الغربي المشهد المميز لمدينة (غادارا)، وهو مبني من حجر البازلت الأسود، ويعود تاريخه إلى أواخر القرن الأول وبداية القرن الثاني بعد الميلاد. وإذا جلست في الصفوف العليا من مقاعد المسرح فانك ستمتع ناظريك بمنظر في غاية الروعة ساعة غروب الشمس، وهناك مسرح ثالث كان يوجد في الحمة المشهورة بمياهها المعدنية الساخنة، والتي تعتبر منتجعا للسياحة العلاجية. وعلى مقربة من المسرح الغربي شرفة معبدة ومبلطة تقوم عليها قاعة رئيسية مبلطة كانت ساحة للكنيسة، وثمة بناء كبير ثماني الأضلاع تابع للكنيسة الكبيرة التي تتصل بالمسرح الغربي بواسطة ثلاثة ممرات. ومقابل الشرفة قرب نقطة تقاطع الشارعين الرئيسيين المبلطين ( كاردوروديكومانوس) تبرز أساسات البوابة الغربية للمدينة القديمة (بوابة طبريا) التي كانت تحيط بها أبراج دائرية تنتشر حول شارع (ديكومانوس). ويشاهد زوار (أم قيس) مجموعة من الحمامات الرومانية التقليدية، وفيها غرف للماء الساخن والدافئ والبارد، وكذلك غرفة لتغيير الملابس، وقرب الحمامات ولكن تحت الأرض يقف نصب تذكاري روماني، وخلفه صهريج مصنوع من صخر البازلت الأسود يعرف باسم (صهريج الماء السفلي). وتشاهد القبور المحفورة في الصخور في أحياء المدينة التاريخية مثل قبور جيرماني وموديستوس وتشيرياس، وقد اكتشفت أخيرا فوق هذا النصب التذكاري كنيسة كبيرة ذات خمسة ممرات لا يزال التنقيب عن بقية مكوناتها مستمرا.