مقاهي القاهرة ..الثقافة قبل الشاي والقهوة!!

?? تتباين مستويات الحضور في المقاهي الثقافية في القاهرة، وسط محاولات بعضها استرجاع ماض عريق ومراحل غابرة، في وقت يكتفي بعضها الآخر بما آلت إليه أحواله، ويردد ما حفلت به من مناسبات، وما مر عليها من أسماء لافتة في عالم الفن والثقافة والفكر والأدب قبل أن يأفل نجمها. ويعتبر كافيه ريش، الواقع قرب ميدان طلعت حرب في وسط القاهرة، من أعرق المقاهي الثقافية في العاصمة المصرية، إلى جانب أخرى لم يبق لمعظمها أثر يذكر. وقال صاحب المقهى مجدي عبد الملك ميخائيل (57 عاما) إنه يبذل أقصى جهوده لإعادة المكان إلى أمجاده الغابرة. وتابع أن مفهوم المقهى مستوحى من فرنسا أساسا، إلا أنه خضع لعملية تطوير مستمرة على مدى العصور، وبالتالي تحول المقهى إلى مكان لقاء اجتماعي الطابع، حيث تكون وسائل الترفيه ثقافية. تاريخ قديم بشهادة علمية!! من جهتها، رأت الباحثة رانيا أحمد التي كتبت أطروحتها الجامعية عن المقهى أن حياة المثقف المصري ترتبط عضويا بالمقهى، بحيث يعتبره بعضهم بمثابة عنوان آخر لهم. وكانت بدايات المقهى عام 1908 عندما افتتحه رجل ألماني اسمه برنارد ستاتبرغ، ثم ما لبث أن باعه إلى الفرنسي هنري ريسجييه عام 1914 الذي أطلق عليه اسم ريش. وإبان الحرب العالمية الأولى، باع الفرنسي المقهى لليوناني-المصري ميخائيل بيلتيس الذي عرف عنه شغفه بالفنون والآداب على مختلف أنواعها وقيامه بإجراء المزيد من عمليات التوسع باتجاه شارع سليمان باشا المجاور، ليتحول قسم من المقهى إلى مسرح غنائي. وبات المسرح راسخا في العشرينات، مع حصوله على ترخيص بالغناء من الحكمدار، حيث كانت إحدى الفرق تعزف فيه بشكل دائم بحضور مترددين على المقهى من طبقة الأرستقراطيين المصريين والأجانب على حد سواء. ومن أبرز الفنانين الذين مروا على مسرح كافيه ريش كوكب الشرق أم كلثوم العام 1923، وكان ثمن بطاقة حفلتها 15 قرشا، وذلك بعد أن سبقها أستاذها الشيخ أبو العلا والفنان أنيس زكي مراد، والد المطربة ليلى مراد. وشكلت تلك الأعوام بداية العصر الذهبي الذي استمر حتى سبعينات القرن الماضي. وقال ميخائيل إن والده اشترى المقهى عام 1960 عندما كانت هناك موائد مخصصة للإذاعيين وأخرى للمخرجين وغيرها للمفكرين والصحافيين والأدباء ولكل فئة ركنها الخاص. قهوة تنويرية!! شدد صاحب ريش على الطابع التنويري لرواد المقهى، الذين كانت غالبيتهم من خريجي الجامعات الفرنسية، والذين جلبوا معهم ما عايشوه هناك من أفكار وتطلعات ومنظومة قيم، مؤمنين بأن الفرنكوفونية هي من أقرب الثقافات إلى العربية. وفي الواقع، من الصعب أن نجد اسما في عالم الفكر والفن والأدب وحتى السياسة لم يتردد على ريش، خصوصا إبان حقبة الخمسينات والستينات. وغلب حضور الجماعات اليسارية على الليبراليين في نهاية السبعينات. وبدأت مرحلة التدهور في مستوى الرواد ونوعية الزبائن خلال الثمانينات، عندما بلغت الأمور حد تبادل الشتائم والضرب بالكراسي فما كان من صاحبها سوى إغلاقها لفترة امتدت عشرة أعوام (شباطفبراير 1990 حتى آذارمارس 2000). وقال عبد الملك إن الذين هربوا من المكان سابقا بسبب تدهور نوعية الرواد بدأوا حاليا، بعد إعادة افتتاحه، بالعودة إلى رحابه مشيرا إلى عدم اكتراثه بالربح المادي، حسب قوله، لأن جل ما يهمني هو استعادة السمعة والأجواء السابقة التي اشتهر بها المكان. أوضح أن مخرجين سينمائيين بارزين وأساتذة جامعات يعقدون حاليا ندوات وحلقات دراسية أسبوعيا في المقهى، ولا يكاد يجني منها شيئا، لكنه أعرب عن ارتياحه إزاء مستوى الحضور الثقافي الذي يشكل غنى لا مثيل له. قصة الفيشاوي!! أنشئ مقهى الفيشاوي الواقع في خان الخليلي قبل 240 عاما تقريبا كما يقول أحمد الفيشاوي (46 عاما) مديره الحالي، موضحا أن المكان استمد شهرته بسبب وقوعه في منطقة خان الخليلي والحسين التي كانت من أكبر المراكز التجارية في القرنين المنصرمين. و أضاف أن 90? من تجار المنطقة وعلماء مشيخة الأزهر القريبة كانوا يلتقون في المقهى بعد صلاة الجمعة. ولكن مع الزمن، بدأ فنانون وأدباء في التردد على المكانن وخصوصا في خمسينيات القرن العشرين، أبرزهم الأديب نجيب محفوظ ومجموعة الحرافيش. وأوضح أن المقهى كان عبارة عن مجموعة من حجرات تطل جميعها على البهو الداخلي، وكان كل فنان أو مفكر يختار واحدة منها للقاء الأصدقاء والمعجبين. أكد أن آخر ملوك مصر فاروق (1937-1952) كان، خلال الحفلات التي أقامها، يطلب من الفيشاوي تقديم التبغ والشاي الأخضر اللذين كانا سبب شهرته. وتابع أن عددا من الباشوات كانوا يلتقون فيه كل يوم خميس من مطلع القرن الماضي حتى ثورة تموزيوليو 1952، وخصوصا مصطفى باشا النحاس رئيس الوزراء الأسبق. لكن المقهى تحول في العقود الأخيرة إلى معلم سياحي إذ يتوافد عليه العديد من السياح وخصوصا الفرنسيين منهم. غرب في الشرق!! يلتقي عدد من الفنانين والمثقفين في مقهى الغربيون الواقع في الشارع الموازي مساء يومي الأحد والثلاثاء تقريبا لتبادل وجهات النظر حول مختلف القضايا المطروحة. وقال أحد المراقبين إن المقهى يحاول أن يكون مكانا للمعارضين كما كان دور ريش في الحقبة السابقة، دون أن يعني ذلك أن الأخير تحول الى صفوف الموالاة، موضحا أن ريش تخطى مرحلة النضج الثوري والبدايات ليستقر على وجهة أخرى. وأضاف أن التغييرات التي طرأت ضمن فترة زمنية معينة كانت انعكاسا للواقع الأدبي والثقافي والفكري وسط تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية شهدتها القاهرة في العقود الثلاثة الأخيرة.