كل شيء بريالين فقط!!

قرأت أن سليمان عليه السلام سأل نملة كم يكفيها من القوت لعام كامل، فقالت حبة قمح واحدة، فاحتبسها مع حبة قمح واحدة. وبعد عام وجدها ومعها نصف حبة القمح، فأخبرته أنها لم تعلم متى يفك أسرها فوفرت نصف قوتها. كم آسى لحال أمتنا، فليس فيمن يدبر اقتصادها من يملك عقل نملة. الرجال بطبعهم جبلوا على جمع المال وادخاره، والنساء عكسهم تماما، فلو ملكت إحداهن قرشا لم تنتظر الصباح حتى تنفقه ولو ألقته في الشارع. خبراء التسويق في الشركات العالمية يدركون هذا الطبع السيئ في النساء، ومع علمهم أن المحفظة في جيب الرجال إلا أنهم يدركون أن القرار في قلب المرأة وليس في عقلها، لذلك تراهم يتجاوزون الرجال، ويوجهون خطابهم الإعلاني إلى المرأة مباشرة، ولم يعد الأمر مقتصرا على السلع النسائية، أو حتى حاجات المنزل وضرورياته، بل أصبحت كل سلعة استهلاكية توجه للمرأة، حتى شركات السيارات أصبحت تغازل المرأة بإعلاناتها، وتعتمد في موديلاتها مايستهوي النساء، ومن يدري فربما يأتي زمان تصبح فيه شركات صناعة السلاح توجه أدوات الموت والدمار إلى المرأة، فهذه قنبلة بألوان زاهية، وذاك سلاح كيميائي بروائح عطرية، وتلك دبابة تضج جنازيرها بالمشاعر النسائية الرقيقة. قبل أن أتزوج كنت أعلم أن المال محور المشاكل بين الزوجين، وأن الرجل لو أنفق على زوجته مال قارون فستظل تشكو من تقصيره وتقتيره. ذات يوم رحت أداعب أم عبدالله وقلت لها: تخيلي أني وهبتك مائة ألف ريال فهل تستطيعين إنفاقها في أسبوع دون أن تتصدقي بها أو تهبيها لأحد أو تشتري شيئا ضروريا، فأطرقت لحظة ثم ذكرت عددا من التوافه والخنفشاريات بددت المائة ألف ريال في أقل من أسبوع، فتحديتها أن تنفق مائتي ألف فاستطاعت أن تفكر في وسائل لإنفاقها في أسبوع، ومازلت أزيد وهي تستطيع أن تنفق المبلغ في أسبوع حتى وصلت المليون، عندها توقفت وربما لو زدت لزادت. قررت أن أستخدم أسلوب تجفيف منابع الإنفاق عند أم عبدالله، وكانت أولى هذه المحاولات أن أذهب لوحدي لشراء طلبات المنزل ومايقيم أمورنا المعيشية، وافقت دون كثير جدال وكأنها تعلم مسبقا بفشل الفكرة، وكانت النتيجة مروعة فكل ما أحضرته لم يصلح أو لم يعجبها، فالخيار كبير لايصلح للسلطات، والكوسة صغيرة لاتصلح للمحشي، وبقية الخضار ذابلة، والبرتقال حامض مليء بالبذور، والعصير ليس من النوع المفضل للأولاد، واللحم لايناسب البامية مع أنني لم أشتر بامية ولم تطلبها أصلا، حتى مفارش السفرة ليست من المقاس المناسب ولا السماكة المطلوبة. وافقت على مضض أن تصحبني أثناء التسوق، لكنني اشترطت عليها أن تسجل كل ماتحتاجه في ورقة قبل أن ندخل السوق، حتى إذا بدأنا التبضع ورأت سلعة جديدة أو عرض أسعار لئيم رفعت الورقة في وجهها وقلت: لو احتجتها لكتبتها في القائمة، ومالانحتاج إليه لاداعي له، حتى إذا وقفت في طابور الحساب تسمرت عيناي على المحاسب، وتعجبت من هذا الفرن الصغير الذي تقذف فيه النقود ولايريد أن يمتلئ، وما إن حان دوري في الحساب وبدأت أضع المشتريات على الطاولة إذا بها تلقي على الطاولة كومة من المشتريات ذهبت لإحضارها أثناء انتظاري في الدور. ماذا عساي أن أفعل أمام الناس؟ وضعت يدي على رأسي وقلت: ياه!! لقد نسيت هذه الأشياء المهمة الحمد لله أنك تذكرت، والحق أن رأسي كاد ينفجر. بعد عودتنا تجادلت معها كثيرا فيما حدث، واعتبرته مخالفة لاتفاق السلام الشرائي الذي عقدناه بيننا، لكن غضبي كان زوبعة في فنجان فضلا عما لديها من قدرة عجيبة على الإقناع، فتلك الأقماع التي زعمت أنها جيدة لصناعة البيتيفور لاأدري متى تستخدمها، فلم نعرف هذا البيتيفور يوما، وخلاط العصائر المخفوقة لن تستخدمه أبدا، فلا أنا ولا الأولاد ولاحتى هي تحب هذا النوع من العصير. وإن نسيت الكوارث الشرائية فلن أنسى بدعة كل شيء بريالين، هذه المحلات التي ملأت السهل والجبل ولم تخل منها الطرق السريعة فضلا عن الشوارع التجارية لاتنفع معها سياسة، ومن دخلها لابد أن يخرج محملا بالأكياس، وما إن يصل إلى بيته حتى يكون بعض مااشتراه قد تلف، ولايمر أسبوع حتى يكون معظم مااشتراه منها قد تلف، ثم يعود إليها مرة أخرى وكأنه وصي عليها مأمور بإنفاق قوام عيشه عليها. بعد أن فشلت كل محاولاتي قلت في نفسي لم لاأرم الكرة في ساحتها وأحملها المسؤولية وأضعها أمام المشكلة حتى تشعر بها، ولعلها لو أصبحت مسؤولة عن الأمر كله فلربما استعادت توازنها وفكرت في ترشيد إنفاقها. حل آخر الشهر تسلمت الراتب فاستقطعت منه قسط الإيجار ومبلغا بسيطا للضرورات القصوى ورميت بالباقي في يدها وأنا أقول: اللهم سلم سلم. جعلت الأمر نوعا من التحدي، وأمضت ليلتها ساهرة بين الأوراق والآلة الحاسبة تضرب وتقسم وتجمع وتطرح وكأنها ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية، افتتحت برنامجها الاتفاقي بوليمة فاخرة حوت كل مالذ وطاب، أكلت يومها بشهية، فأجمل اللحظات التي تمر على الرجل عندما يأكل دون أن يدفع. قلت لها: انتبهي نحن في أول الشهر وأمامك الكثير من المسؤوليات، لكنها ردت بثقة وقالت: سترى كيف أوفر لهذا البيت كل طلباته، ولن أحرم أحدا من شيء، وسأوفر بعد كل هذا. قلت في نفسي: لو كان هذا برنامجك الانتخابي لانتخبك العرب رئيسا لهم دون أن يسألوا كيف ستفعلين ذلك. ما إن انصرم الأسبوع الأول حتى جاء وقت التبضع، انطلقنا إلى السوق وقبل أن ندخل ذكرتني بأنها المسؤولة مسؤولية مطلقة فوضعت يدي على فمي وقلت سأكتفي اليوم بدور السائق. دخلت السوق ودفعت السلة أمامها بحماس وخلال دقائق كانت السلة ممتلئة، أرعبني المنظر وشعرت أن قراري كان حماقة، فإذا كنا لانسلم من نهم الاستهلاك والمال في يدي، فماذا سيحدث وقد سلمتها الخزنة والمفتاح، أفقت من مشاعري وهي تفتش حقيبتها وقد بدت عليها إمارات القلق، وفجأة قررت أن نغادر السوق. كان أمرها عجيبا ومحرجا في آن، لكن مهما كان السبب فقد أسرعت بالمغادرة، فالخلاص من تلك العربة المليئة بالبضائع مكسب عظيم، عادت إلى البيت وكأنها لبؤة مسعورة تبحث عن أرنب. قلبت البيت رأسا على عقب، أدركت أنها أضاعت شيئا ثمينا لكنها رفضت كل أنواع المساعدة، وكانت ليلة عاصفة سادها التوتر والمزاج الغاضب، ولم نستطع أن نقترب منها، حتى أصغر الأولاد الذي يحظى عندها بمكانة خاصة، وأمضت ليلتها ساهرة حتى الصباح، كنت أرقبها من طرف خفي فأراها ساهمة شاردة الذهن حزينة تنتابها نوبات بكاء، لكنها تصر على إخفاء مابها. في اليوم التالي ناولتني مبلغا صغيرا وطلبت شراء أمور ضرورية وبكميات قليلة فسررت لذلك، وبدأت أثق بفكرتي فلعلها نجحت وأصبحت زوجتي مدبرة، لكنها ظلت على حزنها ولم تفارقها نوبات البكاء وإن كان بوتيرة أقل من الليلة الأولى، استأذنتني للذهاب مع صديقة لها إلى سوق الذهب فكاد قلبي أن يقف، وفقدت الأمل تماما في أن توفر شيئا، وقلت ربما كان هذا التقشف لتشتري لها حليا جديدة، لكن حالتها النفسية لم تكن تسمح بنقاشها مطلقا فخليتها وشأنها، ومرت الأيام وأوشك الأسبوع الثاني على الانصرام ونحن نعيش حالة متقشفة وكأن صندوق النقد الدولي قد فرض قيودا اقتصادية على زوجتي، لكن مسحة الحزن ظلت لاتفارقها أبدا وتأتي ساعات تكاد الدمعة تفر من مقلتيها، ولاتريد أن تخبرني بسرها، فأدعو الله لها بالفرج وأشكرها على حسن التدبير. كنت قد اعتدت في إجازة الأسبوع أن أستيقظ مبكرا وأغسل سيارتي دون الاستعانة بحارس العمارة كما يفعل كل سكان الحي، وكانت هذه العادة سبب الجفوة بيني وبين الحارس، وهذا مالم أكترث له، لكنه كان وقت جدل دائم مع أم عبدالله التي كانت ترى هذا السلوك نوعا من التنطع والبخل، وبينما أنظف السيارة من الداخل إذ عثرت على محفظة نقود أم عبدالله، ففتحتها فإذا فيها معظم المبلغ الذي سلمته لها أول الشهر، عندها تبين لي سبب حزنها، لكن عجبي اشتد فمن أين كانت تنفق علينا في الأيام الماضية، أسرعت إليها مبشرا، وأيقظتها ورميت المحفظة في حجرها فطارت من الفرح وخرت لله ساجدة. كانت لحظات فرح لاتوصف، تحمد الله وتثني عليه وتضحك حتى إذا هدأت قلت لها: من حقك أن تفرحي ومن حقنا أنا والأولاد أن تكافئينا. قالت: إنها ليست فرحة واحدة بل فرحتان.