شباب الـ دوت كوم!

بعض المحللين الاجتماعيين ينظرون إلى شبكة الإنترنت كفاعل اجتماعي يتجاوز دور الوسيلة التكنولوجية، ويرون أنه يعيد ترتيب الأدوار الاجتماعية بل القوى الاجتماعية بوضعه للشبيبة في موضع قاطرة القوى الاجتماعية، ففي مجال العمل لا تزال سنوات الخدمة والشعر الأبيض والأقدمية في طليعة مايحسب حسابه عند التقويم الوظيفي، لكن شبكة الإنترنت تهدد بقلب هذه الأوضاع، صحيح أن ذلك سيستغرق وقتا لكن الصحيح أيضا أن على كبار السن أن يتهيأوا من الآن ليشاركوا جيل الدوت كوم في سلطة كانت لهم وحدهم، والدور الخطير الذي تلعبه شبكة الإنترنت في تفتيت البنى الاجتماعية الراسخة كالعائلة مثلا يثير تشاؤم علماء الاجتماع من الثمن الذي ستدفعه البشرية جراء التمتع بمزايا هذه الشبكة، فالإنترنت تقدم نفسها يوما بعد يوم بديلا للشبيبة عن حكمة الكبار. نتائج الدراسات التي أجرتها عالمة الانثروبولجيا مرجريت ميد على المجتمعات البدائية - والتي أكدت تراجع سلطة الآباء بفعل التغيرات التقنية- مرشحة للتكرار في أرقى المجتمعات، وبمعدل مضروب في المليون. من المعروف أن المجتمعات -التي تتعرض للتغير التقني السريع لا يعود الآباء فيها يملكون ما يقدمونه لأبنائهم، لأن معارفهم تفقد ملاءمتها للوقائع المستجدة، وهو ماينطبق على علاقة الآباء والأبناء بشبكة الإنترنت، فالآباء لا يملكون معظم الإجابات عنها، وفقدوا الموقع الذي كان يخولهم إجبار الصغار ماذا يفعلون أولا يفعلون إزاء أشياء تتبدل بسرعة غير مسبوقة في التاريخ، فأي لغة كمبيوتر تم تعلمها قبل عقد من الزمن أصبحت عديمة الفائدة. هكذا توجه الإنترنت ضربات قاضية لحكمة حنكة الكبار وتزيحهم عن سلطة التوجيه والتربية لصالح قوى خفية وراء الشبكة لا يراها أحد، وهكذا أطلت من جديد مقولة الفوضويين إن عمر العائلة الأبوية مجرد لحظة في التاريخ. الآثار الاجتماعية الأكثر خطورة لهذه الشبكة ليست ما تتضمنه صفحاتها من مواقع إباحية أو دردشاشات فارغة أوترويج لأفكار هدامة، فتلك هي الإشكالية الأيسر حلا، لكن المشكلة الأكبر أن هذه الشبكة تمضي قدما في صناعة جيل من القطيع الإلكتروني يتم توجيهه عن بعد لحساب خيارات جديدة في الاقتصاد والسياسة والفن والاجتماع وشؤون الحياة كافة، وهي خيارات تهدد بانتكاس البشرية إلى حقب مظلمة من التاريخ، وبهذا تعيدنا أكثر وسائل التقنية تقدما إلى الوراء من حيث أرادت أن تدفعنا إلى الأمام فماذا أعددنا لها.