فتاة دلوعة جدا

من ذكرياتي... في بداية حياتي منذ سنين طويلة، بدأت النوبة (المناوبة) الليلية، وكان استفتاحا مضحكا ومبكيا في الوقت نفسه.. بعد المرور العادي الليلي على الأقسام بالمستشفى، وكنت قد انتهيت من المرور، وإذا بالبواب عم إبراهيم يقول لي وهو منفعل: إلحق يا دكتور فيه حرمة تحت! قلت له: ماذا بها؟ قال: لست أدري يقولون بها حريق؟ فيها لحام؟ إجابات مترددة، فنزلت سريعا لأرى ما الأمر، فوجدت فتاة صغيرة في العشرين من عمرها نحيفة إلى درجة الهزال، وزوجها في حوالي الخامسة والثلاثين طويل أصلع، يحمل طفلا عمره حوالي سنتين بيد، ويحاول أن يهديها باليد الأخرى، نظر إلي وهو منفعل وقال لي بلكنة لبنانية: حضرتك حكيم عيون؟ فأومأت بالإيجاب، فقال لي: كانت تقلي وطار الزيت على يديها وعينيها، وجدت في يديها بعض الاحمرار وكانت مقفلة العينين، دخلت السيدة الصغيرة، أو قل الفتاة التي دخلت إلى مجتمع السيدات مبكرة، كانت تمشي خطوة وترجع أخرى، وتتأوه وتشكو من عينيها، وكانت تحمل قطعتين من البطاطس تغطي بهما عينيها، قلت لها: لا عليك إن شاء الله بسيطة، وسلامات: قالت لي: عيناي تحرقاني ويدي هي الأخرى كالنار، أف... ما هذا؟ فقلت: عسى خير بسيطة، وبدأت الكشف عليها وبعد وضع القطرة والصبغة وجدنا العينين سليمتين وليس بهما أي شيء، وطمأنتها وكذلك زوجها وقلت لها: كل شيء سليم واحمدي الله، وأعطيتها العلاج اللازم، ولكنها قالت: يدي الحقني يدي تحرقني... بعد أن كنت في حالة من الجدية بدأت تنفرج ابتسامتي عن ضحكة لم أستطع أن أمنعها من تلك الشكوى والمبالغة المهولة، قلت لها: حسنا ووضعت لها مرهما على مكان الحرق، وأخذت أشرح لها كيف تستعمل العلاج، ولكنها قالت لي أنا لا أستطيع، قل لزوجي، فقلت حاضر، وبدأت أخبر زوجها وهو يستزيد إرضاء للزوجة الصغيرة الدلوعة، وبدأ الزوج يقول لي: بالصدفة اليوم ذهبنا نكشف على عينيها في أحد المستشفيات الخاصة، وللمصادفة حدث ما حدث فقالت لي: خذني إلى ذلك المستشفى الخاص، ولكن الوقت متأخر، فجئت بها إلى المستشفى الحكومي الوحيد المتخصص في هذا المجال، ولكنها قاطعتني وقالت: أنا لا أدري بل هو يدري أين المستشفيات، وكانت عصبية والزوج يسامرها، ويلاطفها ويخفف عنها، ثم قامت وهي تتمايل وتشكو مرة أخرى فقلت لها أنت سليمة بل ممتازة، وقلت له بصوت هامس: يجب أن تشد عليها قليلا، فقال لي هل تزوجت يا دكتور؟ فقلت ليس بعد، قال لي: شوي شوي، يعني سنرى بعد ذلك أو سنرى ماذا أنت فاعل بعد الزواج، فضحكت من هذا الخبير ذي الباع الطويل في الصبر، خرج الإثنان معا وهما شاكران ومودعان، وما هي إلا خطوات ورأيت تلك الفتاة الصغيرة وقد وقعت أرضا والرجل متحير، وكله أسى على تلك الحالة التي لا تحتاج إلى قلب أكثر تشددا وصرامة، فذهبت إليه وأنا أعرف أنها ليس بها شيء، ولكنها تزيد إحساسه بالذنب لفارق العمر بينهما، قلت لها: ماذا بك؟ قالت وهي تتأوه: أعصابي، دايخة، فقلت للممرضة حسنا إلى غرفة الكشف، وبعد الكشف قلت للرجل ليس بها شيء، ولكنها ضعيفة وعندها فقر دم وتحتاج إلى علاج وحقن، ولكنه قال لقد كتب لها الطبيب حقنا ولم تأخذها، فقلت: لا يا سيدي، الطبيب عمله أن يكتب لها الروشتة لا أن يلحق المريض إلى منزله ليعطيه حقنة، ثم يجب عليها أن تتغذى فقال لي: تعبت (والرجل يريد أن يستفيض) وهي لا تأكل إلا المناقيش، فقلت لها: هذا ليس بكلام، وأجابت بعصبية وردت بصوت يصل إلى حد الصراخ: لا تتهجموا علي، أعصابي لا تستحمل، فقلت نعم... ولكنها كانت تلحظ ابتسامتي وقالت: أنا لا أتدلع هي الحقيقة، قلت عسى ولعل وخرجا. أتدرون ماذا قالت الممرضة؟ قالت: حكم إحنا ستات غسيل ولبس مش زي دي.