بدء مشروع الإسلام الحضاري .. ونهاية مشروع الإسلام السياس
نظرة واحدة على خريطة العالم المعاصر كافية لإدراك تلك المفارقة، نكبة الحضارات التاريخية الكبرى وسطوة الدول حديثة العمر والثقافات الناشئة. ولا يعدم المنحدرون من حضارات عريقة أسباب السخط والملل واليأس معا، سخط على حاضر لم يعد له شبه بما كان، وملل من واقع تتنازعه الرتابة والجمود.. ثم يأس من احتمالات الخروج والتجاوز إلى أفق ينقذ الحاضر ويعيد الماضي ويعلو على المستقبل.
وقد بدأ أصحاب الحضارات القديمة في عالم اليوم أشبه بغرباء في أوطانهم، وبدت أوطانهم أيضا غريبة في المكان وفي الزمان. ولم يعد بمقدورهم ترديد تلك العبارات المحفوظة عن ظهر قلب.. نحن أبناء حضارة، إننا أبناء (.....) ألف سنة.
وجاءت وقائع السياسة وحقائق الاقتصاد وإمكانات العلم لتعيد الاعتبار إلى الدقيقة والثانية... أو أجزائها، دون التفات للمزيد.
وهكذا دخلت الحضارات أزمة أوسع، فلا التاريخ بقي على ما كان له من إجلال، ولا الماضي بقي على ما كان له من وهج ومجد.
بل صار ضعف التاريخ مقدمة لسرعة الحركة ورشاقة العبور وفرص التكيف فيما صارت قوة التاريخ سببا للنزاع ومددا للكسل والارتخاء ومانعا من الإنجاز.
وهذا قول.. يحتاج إلى قول وقول.
فإذا ما صح القول بأن الحضارات والتاريخ هي معوقات عن الحركة باتجاه العصر، وأن انقطاع الماضي وتهافت التاريخ وبلادة الأصل هي دوافع للتجديد والإنجاز لصارت أمامنا معادلة مروعة.. تضع السياسة والتاريخ أمام معادلة صفرية، كما تضع الحضارة والاقتصاد أمام ذات المعادلة.
وحين يمعن المرء في مثل هذا القول سرعان ما تقوده الخريطة الدولية إلى دعم وتأييد.. فالهند وإيران ومصر والعراق وسوريا واليونان.. تلك الحضارات العظمى التي احتلت ناصية التاريخ وخلفت تراث الإنسانية.. قد صارت دولا عادية.. تتكدس معاناتها بمثل ما تتكدس قرون حضارتها.
فالهند التي تبدو للكثيرين دولة نووية وحائزة لنخبة ماهرة من خبراء الاقتصاد الإلكتروني.. ينهش الفقر فيها مئات الملايين، وتزيد ديونها الخارجية على المئة مليار دولار، ولا تصل نسبة إسهامها في التجارة الدولية إلى
1633;
1642; من الإجمالي.
ولا تستهدف الطبقة الوسطى وما تحتها فعل شيء غير الخلاص في بلد آخر.. من المحيط إلى المحيط.
وإيران التي أسست إمبراطورية عام
1637;
1637;
1641; ق.م على يد قورش الذي يرى بعض المفسرين أنه ذو القرنين الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، ثم توالت معها القرون وهي حاضرة بازغة.. قبل الإسلام وفي ظلاله، قد أرهقتها السنون، واختفت الإمبراطورية التي كانت، وغابت الحضارة التي انتشرت ثم انكسرت، وصار أكثر من نصف سكانها يرزح تحت خط الفقر، ووصل التضخم فيها إلى ثلاثين بالمئة، والبطالة عشرين بالمئة، وزادت ديونها الخارجية على العشرين مليار دولار.
وأما مصر فهي تدخل القرن الحادي والعشرين وهي واضحة الإرهاق ظاهرة الإجهاد، وبدلا من أن تكسوها السنون الطوال قوة فوق قوة، وعافية فوق عافية، فإن ملامح الشيخوخة باتت تغالبها بعد أن تموجب جبهتها وخفتت عزيمتها.
وعلى صعيد رابع.. وصلت العراق منتهاها.. وبات مستحيلا أن يربط المرء بين حضارة كانت هنا وبين بؤس حل وتمكن... وآثر البقاء!
والأمر ذاته في سوريا مع فوارق في التجربة وتطابق في الظاهرة.. ما بين حضارة قوية ودولة راكدة.
ثم تأتي اليونان قاعدة الغرب وعاصمة العقل وبداية الفكر.. إنها إذ تحتفل بمرور ألفين وأربعمائة عام على وفاة الفيلسوف سقراط، تكافح من أجل الإبقاء على معونات الاتحاد الأوروبي، وتعاني عجزا في الميزان التجاري عشرين مليار يورو، ولا تزيد صادراتها على صادرات دولة صغيرة كلكسمبورج وثلث صادرات البرتغال التي هي بدورها من أفقر اقتصاديات القارة الأوروبية.
وهكذا من أربعة وعشرين قرنا على بداية الفلسفة في اليونان إلى خمسين قرنا على اختراع الكتابة في العراق إلى سبعين قرنا على توحيد الدولة وتأسيس الحضارة في مصر.. وإلى قرون أخرى مديدة من حضارة في الهند وأخرى في فارس.. إلى دول تعاني أزمات، وأزمات لا تجد مخرجا، ومخارج انسدت بفعل الزحام والكسل. وتبدو الصين ـ وحدها تقريبا ـ استثناء مما جرى.
وعلى أية حال.. فإن حديث الحضارات هذا يبدو قديما عما هو مطروح للنقاش الآن، في غمرة الصراخ ضد الإسلام، والصراخ المضاد ضد الغرب.
فالحادث أن حضارات مصر وفارس وبابل وآشور.. لم يعد بالإمكان طرح استعادتها.. فقد انطوت جميعها ومن زمن بعيد تحت حضارة واسعة هي الحضارة العربية الإسلامية. وصار العالم ـ على نحو عام ـ إذا ما تعرض لحوار الحضارات أو صدامها.. إنما يتحدث عن حضارات أربع.. الحضارتين اليونانية والرومانية غربا، والحضارتين الإسلامية والصينية شرقا.
وإذا كان الغرب الحالي هو في واقع الحال نتاج الحضارتين اليونانية والرومانية معا.. وإذا كانت الصين الحالية في واقع الحال ذاته نتاج الحضارة الصينية الكونفوشيوسية. فإن نكبة الحضارة.. تصبح قصرا على الحضارة الإسلامية التي انتكست وحدها.. فيما لا تزال الحضارات الثلاث الرئيسية الأخرى قادرة على الفعل والبقاء.
وتقديرنا ـ العاجل بالطبع لعجلة المقال والمقام ـ أن سببا رئيسيا فيما هو شاخص من نكبة الحضارة الإسلامية.. هو تمدد مشروع الإسلام السياسي وكساد مشروع الإسلام الحضاري طيلة القرن العشرين، أو نكسة المشروع الأخلاقي في الإسلام.
يحظى الإسلام بقدر عظيم من فضائل الأخلاق ومكارم السلوك، وقد حرص الرعيل الأول من الصحابة والذين يلونهم على تأكيد معنى الأخلاق.. رحمة ومودة ومروءة.. وحياء وأدبا. واحتفظ المسلمون المخلصون بمدى واسع من التسامح والنقاء أو كانت إشراقة الروح ودماثة الخلق هي ركائز المشروع الإسلامي، الذي كان يتمدد قيما وسلوكا قبل أن يمتد جيشا وفتحا.
وحين جاء مشروع الإسلام السياسي المعاصر، اختفت الأخلاق لصالح السياسة، وغابت الروح لصالح المادة، وجاء الفكر المادي لمشروع الإسلام السياسي ممثلا في السلطة والدولة والغنائم.
وفي الوقت الذي كانت تتنافس فيه أيديولوجيا المادية التاريخية شرقا مع أيديولوجيا المادية الليبرالية غربا، كان بإمكان الإسلام أن يقدم ذلك الطريق الجامع بين المادة والروح، وبين الحرية الفردية والالتزام الجماعي، أو بين الكفاءة والرحمة.
غير أن مشروع الإسلام السياسي قد جاء بـالمادية الجهادية ليكمل منظومة غياب الروح في العالم الحديث.
وهكذا.. وبالتوازي مع وطأة الشيوعية شرقا وقسوة الرأسمالية غربا.. جاء مشروع الإسلام السياسي ليزيد منها وليفتح أبوابا شاسعة للصدام وينهي إلى الأبد مشروع الإسلام الإنساني لصالح الجهاد اللانهائي.
وقد جاء معظم قيادات هذا المشروع من خلفيات لا تتمتع بالضرورة بالعلم الكافي أو بالجسارة الأخلاقية اللازمة. ففي حالة أفغانستان مثلا، جاءت حركة طالبان بكاملها من طلاب لم يكمل أكثرهم دراسة الشريعة. وحتى لقب الملا فهو يشير إلى درجة معرفية متواضعة.
وقد أدى غياب العلم والمعرفة الإسلامية الحقيقية عن أعضاء الجماعات الإسلامية إلى مزيد من الانغلاق والعزة بالإثم، وعدم احترام الآخر.
لقد صار لدينا فقه جديد وفلسفة إسلامية جديدة تقوم على المادية الجهادية ولم يعد بمقدورنا ونحن نرى فقدان الروح ونهاية الأخلاق، واختزال الإسلام في أشكال بدائية وسلوكيات فظة ووعيد لا ينقطع، أن نترك المزيد من الوقت للفهم، أو المضي وراء الذين يروجون ويبررون ويتحذلقون في غير صدق وفي غير خلق.
فقد انكشف مشروع الإسلام السياسي في الخارج بمثل ما انكشف في الداخل، أساء للمسلمين في بلادهم وأساء لهم خارج أوطانهم، وفيما كان قادة الجماعات يحققون انتصارات وهمية على القنوات الفضائية كان الإسلام يخسر من سمعته وصورته ورسالته الأخلاقية التي حملها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قبل قرون.
وخاتمة القول هنا.. أن البعض منا قد اختطف المشروع الحضاري.. وهذا البعض هو الذي أعاد تقديمه للغرب في أسوأ حال من وقاحة الخطاب وضعف الحيلة. وإن صورة الإسلام في العالم.. من اليابان والصين إلى أوروبا والأمريكتين أضحت أسيرة هذا التقديم الكاذب للدين الحنيف وللمؤمنين به. وإذا كانت من معالم جديدة على طريق جديد، فهي الاعتراف بفشل مشروع الإسلام السياسي بكل أطيافه وتنظيماته، والشروع في إعادة الاعتبار لمشروع حضاري يعيد مفاهيم الأخلاق والرحمة وفضائل السلوك وخصال الخير. فليس أحوج للمسلمين في المرحلة القادمة من إنهاء المادية الجهادية وعودة الروح.
إنه الخروج من السياسة إلى الحضارة.. والخروج من نكبة طال أمدها إلى آفاق لاتبدو مستحيلة.. إنه الإفاقة من نوبة إجهاد يريد لها البعض أن تطول إلى الأبد.