العمليات الفدائية الفلسطينية .. عمليات استشهادية أم انتحارية؟!!
أصبحت العمليات التي يقوم بها الفلسطينيون ضد اليهود محل نقاش وجدال بين مؤيد ومعارض ويتطلع الجميع لمعرفة الحكم الشرعي لمثل هذه العمليات وهل تعتبر فعلا من الجهاد في سبيل الله أم لا ؟ وهل يكون القائم بها من الشهداء أم من المنتحرين؟ كل هذه الأسئلة وغيرها مما يشغل بال الكثيرين خاصة مع استمرار هذا النوع من العمليات. ومما يزيد الأمر تعقيدا عدم وجود كلام للعلماء والفقهاء المتقدمين في مثل هذه الأعمال لكونها من المسائل الحديثة التي فرضها عليهم الواقع، خاصة وأن الكثير من المسلمين من الفلسطينيين وغيرهم يتعرضون في بلادهم لأنواع من الأذى والظلم والاعتداء وإزهاق الأرواح وهتك الأعراض، ناهيك عن سائر الأمور التي يتعرضون لها مع ضيق الخيارات الموجودة أمامهم لمقاومة هذا الاعتداء من أعداء الدين المغتصبين لبلاد المسلمين. فهل يعتبر هذا النوع من المقاومة من العمليات الاستشهادية فتصبح مشروعة وجهادية أم أنها نوع من العمليات الانتحارية فلا يجوز الإقدام عليها، لنعرض بعض آراء العلماء في هذا المجال: لا بد من مراجعة الحالات المشابهة في الشريعة بداية يقول الشيخ سلمان العودة: إنه لا بد من مراجعة الحالات المشابهة في النصوص الشرعية و الوقائع التاريخية حتى يمكن الاستئناس بها في أمر هذه المسألة، ويذكر الدكتور سلمان العودة من هذه النصوص: قصة أبي أيوب في القسطنطينية، وفيها أن رجلا من المسلمين حمل على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة؟ فقام أبو أيوب فقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، إنما نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا، دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم الآية إلى أخر الحديث . وهو في سنن الترمذي (2898) وقال : حسن صحيح غريب . ورواه أبو داود (2151). ومن ذلك أيضا ما في مصنف ابن أبي شيبة عن محمد بن إسحاق (وهو صدوق مدلس) عن عاصم بن محمد بن قتادة قال: قال معاذ بن عفراء: يا رسول الله ، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسرا. قال: فألقى درعا كانت عليه، فقاتل حتى قتل. وصححه ابن حزم في المحلى (7294) وذكره الطبري في تاريخه (233) عن عوف بن الحارث، وهو ابن عفراء، وهكذا في سيرة ابن هشام (3175). وقد روى ابن حزم في المحلى (نفسه) عن أبي إسحاق السبيعي قال: سمعت رجلا سأل البراء بن عازب: أرأيت لو أن رجلا حمل على الكتيبة، وهم ألف، ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال البراء: لا، ولكن التهلكة أن يصيب الرجل الذنب فيلقي بيده، ويقول: لا توبة لي. قال: ولم ينكر أبو أيوب الأنصاري، ولا أبو موسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده على العسكر الجرار، ويثبت حتى يقتل. للفقهاء بعض الفتاوى التي تفيد في هذه المسألة ومن النصوص والفتاوى الشبيهة بهذه المسألة ما ذكره الحافظ ابن حجر في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو أن الجمهور صرحوا بأنه إذا كان لفرط شجاعته، وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يـجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن. ومتى كان مجرد تـهور فممنوع، لا سـيما إن ترتب على ذلك وهن المسلمين. ( انظر: سبل السلام 2473 ) وذكر ابن العربي (1166) أن الصحيح جواز إقدام الرجل الواحد على الجمع الكثير من الكفار: لأن فيه أربعة وجوه: الأول: طلب الشهادة. الثاني: وجود النكاية. الثالث: تجرئة المسلمين عليهم . الرابع: ضـعف نفوس الأعداء، ليروا أن هذا صنع واحد منهم، فما ظنك بالجميع؟ ضوابط القيام بمثل هذه العمليات ويخلص الشيخ سلمان العودة من هذه النصوص وغيرها إلى أنه يجوز القيام بالعمليات الاستشهادية بشروط تستخرج من كلام الفقهاء، ومن أهمها: أولا: أن يكون ذلك لإعلاء كلمة الله. ثانيا: أن يغلب على الظن، أو يجزم، أن في ذلك نكاية بالعدو، بقتل أو جرح أو هزيمة أو تجرئ للمسلمين عليهم أو إضعاف نفوسهم حين يرون أن هذا فعل واحد فكيف بالجماعة. وهذا التقدير لا يمكن أن يوكل لآحاد الناس وأفرادهم، خصوصا في مثل أحوال الناس اليوم، بل لابد أن يكون صادرا عن أهل الخبرة والدراية والمعرفة بالأحوال العسكرية والسياسية من أهل الإسلام وحماته وأوليائه. ثالثا: أن يكون هذا ضد كفار أعلنوا الحرب على المسلمين، فإن الكفار أنواع، منهم المحاربون، ومنهم المسالمون، ومنهم المستأمنون، ومنهم الذميون، ومنهم المعاهدون، وليس الكفر مبيحا لقتلهم بإطلاق، بل ورد في الحديث الصحيح كما في البخاري (2930) عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما) ورواه النسائي وأحمد وابن ماجه وغيرهم. والأصل إجراء عقود المسلمين على الصحة وعدم التأويل فيها، وهذا يفضي إلى الفوضى والفساد العريض. رابعا: أن يكون هذا في بلادهم، أوفي بلاد دخلوها وتملكوها وحكموها، وأراد المسلمون مقاومتهم وطردهم منها، فاليهود في فلسطين، والروس في الشيشان ممن يمكن تنفيذ هذه العمليات ضدهم بشروطها المذكورة. خامسا: أن تكون بإذن الأبوين، لأنه إذا اشترط إذن الأبوين في الجهاد بعامته، فإذنهما في هذا من باب أولى، والأظهر أنه إذا استأذن والديه للجهاد فأذنا له، فهذا يكفي، ولا يشترط الإذن الخاص والله أعلم .ومن يقوم بهذه العمليات وفق الشروط المعتبرة شرعا فهو بإذن الله شهيد إذا صحت نيته. لا علاقة بين العمليات الاستشهادية والانتحار أما الشيخ محمد عيد العباسي فيقول إن هذه العمليات الاستشهادية لا علاقة لها بالانتحار، وذلك لأن الانتحار هو قتل النفس بغية التخلص من الدنيا وما فيها من مصائب ونكبات وهموم وغموم، بخلاف هذه العمليات فإنه بقصد بها إعلاء كلمة الله جل وعلا، فهي نوع من الجهاد في سبيل الله، ولا شك أن كل عاقل يفرق بين الانتحار وبين العمليات الاستشهادية. ويضيف الشيخ العباسي: إن هذه العمليات وإن كانت غير موجودة في السابق، إلا أن أصول الشريعة الإسلامية تؤيدها، ومما يدل عليها ما ثبت في قصة أصحاب الأخدود وذلك أن الملك لما عجز عن قتل الغلام دله على طريقة قتله فقتله بها فمات. ولكن اعتبر هذا الفعل منه شهادة لما فيه من المصلحة، إذ أنه بهذا الفعل آمن به قومه وبين للناس حقيقة باطل الملك ومن معه. ومثل ذلك ما حدث من البراء بن معرور عندما طلب من أصحابه أن يحملوه ويقذفوا به في حديقة مسيلمة التي كان يتحصن بها هو ومن معه من المرتدين، علما بأنه يعلم أنه سيقاتل وحده عشرات الآلاف من الأعداء ولم يعد ذلك انتحارا، ومن قرأ السيرة سيجد من الوقائع الكثيرة المشابهة التي لم يحكم فيها الصحابة ولا السلف الصالح بأنها انتحار. ومع أن الشيخ العباسي يرى جواز مثل هذه العمليات إلا أنه يبين أنه لا بد من توافر عدة شروط حتى تنطبق عليها أحكام الشهادة في سبيل الله وهي: أولا: النية وهي أن يكون قصده بذلك وجه الله، وإعلاء كلمته وقتال أعدائه، وليس حب الظهور أو الشهرة أو السمعة. والشرط الثاني: أن لا يكون هذا العمل فرديا وإنما يكون جماعيا بتنظيم وقيادة وفيهم مجموعة من أهل العلم الذين يدرسون القضية قبل الحكم عليها، وذلك لأن الأعمال الفردية تكون في الغالب ذات أضرار وسلبيات، بخلاف العمل المنظم الذي يشرف عليه العلماء والمفتون. الشرط الثالث: أن تكون ذا تأثير بالغ في العدو، بأن تلقي فيه الرعب أوتحدث فيه من الإصابات ما يفت في عضده ونحو ذلك. الرجوع لأهل الحل والعقد ضروري في مثل هذه العمليات ويوضح الدكتور خالد القريشي (الأستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) أن العمليات التي تعرف الآن بالعمليات الاستشهادية في فلسطين من الأمور المستجدة التي اختلف فيها العلماء ما بين مبيح لها ومحرم، وذلك بحسب اختلاف وجهة نظرهم للأدلة، والذي يظهر لي والله أعلم أنه إذا تمت هذه العمليات من قبل رجل مسلم محافظ على دينه مقيم لحدوده وشرائعه، وبالرجوع إلى أهل الحل والعقد عندهم ممن يرون لها أثرا بالغا على العدو، فإنه إن شاء الله يؤجر عليها، وبإذن الله يكون في عداد الشهداء إذا أخلص النية لله وكان هدفه الإسلام وليس الوطنية ونحوها. أما أن يفعلها المسلم وهو مقصر في دينه غير مبال بفرائضه وأحكامه، أو كان فعله هذا عشوائيا بعيدا عن الرجوع إلى أهل الحل والعقد وبدون تنظيم وترتيب، فهذا على خطر عظيم وينبغي عليه عدم الإقدام على هذا العمل. وجهة نظر مخالفة وإذا كانت هذه هي وجهة نظر من أجازها من العلماء فإن هناك من أفتى بعدم جواز مثل تلك العمليات، ومنهم مفتي عام المملكة سماحة الشيخ عبد العزيز آ ل الشيخ، حيث يقول إن هذه الطريقة لا أعلم لها وجها شرعيا، ولا أنها من الجهاد في سبيل الله، وأخشى أن تكون من قتل النفس، نعم؛ إثخان العدو وقتاله مطلوب، بل ربما يكون متعينا؛ لكن بالطرق التي لا تخالف الشرع. العمليات الاستشهادية من أفضل القربات بينما أيد فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية العمليات الاستشهادية، واعتبرها قربة كريمة يتقرب بها المسلم إلى ربه، بل قال إنه لا شك أنها من أفضل أبواب الجهاد في سبيل الله، ومن استشهد في مثل هذه العمليات فهو شهيد إن شاء الله. وبين فضيلته أن التاريخ الإسلامي في عهد النبوة وفي عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم يشتمل على مجموعة من صور الجهاد في سبيل الله? ومن أبرز صور جهاد البطولة والشجاعة النابعة من الإيمان بالله وبما أعده سبحانه للشهداء ما في قتال المرتدين وفي طليعتهم مسيلمة الكذاب وقومه? فقد كان لبعض جيوش الإسلام في هذه المعركة عمليات انتحارية في سبيل افتتاح حديقة مسيلمة (حصنه المتين). إلا أن الشيخ بن منيع يؤكد في نفس الوقت على أنه ينبغي للمسلم المجاهد أن يحسن نيته في جهاده، وأن يكون جهاده في سبيل الله فقط? وألا يلقي بنفسه إلى التهلكة في عملية يغلب على ظنه عدم انتفاعه منها? وألا يكون له تأول في الخروج على ولاة الإسلام? فإن دعوة الولاة ليست في الخروج عليهم? وإنما هي بمناصحتهم بالحكمة والموعظة الحسنة والتزام الأدب في النصيحة. والله المستعان.