التأمين التجاري .. لماذا حرم؟
استجابة لحاجات ملحة فرضتها ظروف الحياة المعاصر نشأ التأمين بأنواعه المتعددة والمختلفة، ولئن كانت نشأته في بداية الأمر اختيارية فإنه مع مرور الوقت أخذ يأخذ شكلا إجباريا في كثير من الدول، ونظرا لما يحققه في فوائد كثيرة تعود على شركات التأمين والمؤمنين فقد تم تطويره يوما بعد يوم في ظل المعطيات الجديدة والظروف الطارئة، ولم يعد مقتصرا على النواحي التجارية، بل تعدى ذلك إلى النواحي الصحية والحوادث المرورية وغير ذلك. ونظرا لأن هذا من ا لعقود الحديثة التي تحتاج إلى نظر شرعي، فقد قام العلماء بدراستها وإبداء وجهة النظر فيها. ومن الضروري التفريق بين نوعين من التأمين هما: التأمين التجاري والتأمين التعاوني، وربما خلط بعض الناس بينهما، ولكل له حكم يخصه دون غيره. فقد ذهب العلماء إلى تحريم التأمين التجاري، ولعل كثيرا من الناس يتساءلون عن سبب حرمة هذا النوع من التأمين، خاصة وأنه يحقق فوائد متبادلة ومنافع مشتركة بين المؤمن وشركات التأمين. التأمين التجاري نوع من الربا والميسر الدكتور سليمان بن إبراهيم الثنيان (عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة بالقصيم) يوضح لنا أسباب حرمة التأمين التجاري فيقول: أولا يعتبر التأمين التجاري في حقيقته بيع نقود بنقود أقل أو أكثر مع تأجيل أحد النقدين، وهو يشتمل على الربا بنوعيه ربا الفضل والنسيئة، وبيان ذلك أن أصحاب التأمين يأخذون نقود الناس على أن يعطونها إياهم أو أقل منها أو أكثر عند وقوع الحادث المؤمن عليه، وهذا هو عين الربا الذي حرمه القرآن الكريم والسنة النبوية تحريما قاطعا. ويتفق الشيخ محمد بن صالح المنجد والدكتور الثنيان على أن التأمين التجاري يشتمل على الميسر، وذلك لأنه قائم على الحظ، فالمؤمن يدفع هذه المبالغ التي يدفعها (قيمة التأمين) وقد يستفيد منها وقد لا يستفيد، فالمسألة مسألة حظ، إن وقع حادث استفاد وإلا فقد ضاع ماله. وأصحاب التأمين أنفسهم يعترفون بأن التأمين قمار، وإذا تبين ذلك عرفنا بطلانه وحرمته لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ولا فرق بين هذه الصورة من الميسر وبين ما كان يحدث في الجاهلية فالكل قائم على الحظ. ويضيف الدكتور الثنيان أن التأمين التجاري بأنواعه قائم على الغرر، وهو محرم بنص الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر رواه مسلم. وذلك لأن التأمين يكون على شيء محتمل الوقوع أو عدمه، وهو مع ذلك مجهول الوقت والمقدار، فمما هو معلوم أن وقت وقوع الحادث شيء مجهول لا يمكن التنبؤ به، وكذلك مقدار تكلفته أمر مجهول، فهو داخل تحت بيع الغرر، (أي الجهالة) فهو نوع من أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال جل وعلا يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ... وقد أثبتت إحدى الإحصائيات الدقيقة لأحد الخبراء الألمان أن نسبة ما يعاد إلى الناس إلى ما أخذ منهم لا يساوي إلا 2.9?. ويؤكد الدكتور الثنيان على أن هناك مخالفات أخرى عديدة لا يتسع المقام لذكرها، ولكن مخالفة واحدة من المخالفات السابقة كفيلة بتحريم هذا الأمر واعتباره من المنكرات. ويدعو الدكتور الثنيان إلى قراءة رسالة بعنوان التأمين وأحكامه: وذلك لزيادة الاطلاع ومعرفة الحقيقة. شبهات المجوزين للتأمين ولئن كان ما سبق فيه دلالة واضحة على حرمة التأمين التجاري، إلا أن هناك بعض الشبهات التي تثار حول هذا الموضوع، فبعضهم يقيس التأمين على نظام معاشات التعاقد، الذي يقوم على اقتطاع جزء من المرتب الشهري للموظفين، حتى إذا بلغ أحدهم سن التقاعد النظامي أخذ راتبا شهريا يبلغ أضعافا مضاعفة عن المبلغ الذي كان يقتطع من راتبه شهريا، ويظل كذلك ما دام حيا مهما طالت حياته،بل وينتقل إلى أسرته التي يعولها من زوجة وأولاد وغيرهم بشروط معينة بعد وفاته، فما الفرق بين هذا النظام وبين التأمين؟ خاصة وأن نظام التقاعد يقره علماء الشريعة كافة من غير نكير أو شبهة، بل إنهم يرونه ضروريا في وظائف الدولة، ومصلحة عامة لا بد منها شرعا وقانونا، هذا بالإضافة إلى أن المصلحة تقتضي التأمين، وهي أحد الأدلة الشرعية التي تبنى عليها الأحكام، ويؤيد ذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم، والتأمين فيه مصلحة عامة للناس، فهو وسيلة للادخار وتكوين رؤوس الأموال المفيدة في الإنتاج والتصنيع، و فيه طمأنينة لأصحاب الأموال والتجارات والصناعات، وتغلب على تكاليف الحياة، وذلك فيه تحقيق مصلحة عامة للمسلمين؟ الفرق واضح بين التأمين ومعاشات التقاعد الدكتور محمد بن يحيى بن النجيمي (الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض) يوضح هذه المسألة بقوله: لا نسلم بأن هناك توافقا تاما بين النظامين بل هناك فروق كثيرة منها: أن الموظف إذا استقال قبل بلوغ المدة المحددة للتقاعد أخذ ما يستحقه عن خدمته، مهما قلت أو كثرت، وفي التأمين إذا توقف المؤمن له عن دفع الأقساط بطلت جميع حقوقه، وخسر جميع ما دفعه من مال. في التقاعد لا احتمال ولا شك في حصول الموظف على مبلغ التقاعد إذا بلغ المدة المحددة في الخدمة. وفي التأمين قد تنتهي مدة العقد دون وقوع الحادث فلا يحصل المؤمن له على شيء ويخسر جميع ما دفعه. الذي يبرم العقد في نظام التقاعد هو ولي الأمر بدافع المصلحة العامة للموظفين، وحسن الرعاية، والذي يبرم العقد مع المؤمن لهم في التأمين فئة من المتاجرين به من الناس، بدافع الربح والإثراء، والفرق بين الحالتين عظيم. يسهم ولي الأمر في تمويل نظام التقاعد بما يخصصه من أموال من بيت المال، ولا يجني من وراء ذلك شيئا، وشركات التأمين لا تسهم بشيء، وجميع مصروفاتها وأرباحها وما تعيده على المؤمن لهم حين وقوع الحادث كل ذلك تستخرجه من جيوب المؤمن لهم. فكيف بعد ذلك كله يمكن أن نقيس التأمين التجاري على نظام التأمين التقاعدي الذي تعطيه الدولة للموظف عند تقاعده. المصلحة العامة لا تخالف النصوص الشرعية وأما القول بأن في التأمين مصلحة عامة وهذه المصلحة تبيحه باعتبار أن المصلحة من الأدلة الشرعية، فيبين الدكتور النجيمي بأن هذا غير مسلم، بل هو على العكس مفسدة عامة، فإن تكديس الأموال في أيدي قلة من الخاصة تتسلط بها وتتحكم مفسدة كبيرة، والمصلحة الشرعية حجة عند من يقول بها بشروط من أهمها: 1- ألا تصادم نصا من قرآن أو سنة ولا مقصدا من مقاصد الشريعة الإسلامية. 2-أن تكون المصلحة عامة للناس وليست خاصة لفئة. 3-أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية. 4- أن تكون هذه المصلحة لحفظ أمر ضروري من الضروريات الخمس المعلومة التي لا قيام للمجتمع بدونها. 5- أن تكون فيما يعقل معناه دون ما لا يعقل، فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجرى التعبدات في الأمور الشرعية المحددة. عندما نريد أن نطبق المصلحة في التأمين على المصلحة الشرعية نجدها تصطدم اصطداما مباشرا بكل شرط من شروطه. فلو نظرنا للشرط الأول نجد التأمين التجاري فيه ربا وميسر، وهما محرمان بنص القرآن، وأيضا في التأمين غرر وهو محرم بنص سنة رسول الله، فصادم بذلك النص الشرعي. أما بالنسبة للشرط الثاني فنجد أن التأمين يحقق المصلحة لفئة من الناس، وهم أصحاب شركات التأمين التجارية، بينما هو ضرر على غالبية الناس. وعن شرط حفظ الأمر الضروري، فالتأمين لا يحفظ أمرا ضروريا، بل هو مخل بالأمر الضروري الذي هو هنا حفظ المال، حيث يكدس المال في أيدي قلة من أفراد المجتمع. أما شرط كون المصلحة العامة حقيقية لا وهمية، فكل العقلاء يدركون أن المصلحة في التأمين التجاري إنما هي وهمية وليست حقيقية، ودليلها مساوئ التأمين مما جعل كثيرا من المنادين به يتراجعون عن إباحته لما فيه من المفاسد العظيمة. فتوى المجمع الفقهي وتأكيدا لما سبق فإن المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي قد قامت بدارسة هذا الموضوع من عدة جوانب وأصدرت بشأنه قرارا ونصه: إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الآخر 1406هـ.22-28 كانون الأول (ديسمبر) 1985م بعد أن تابع العروض المقدمة من العلماء المشاركين في الدورة حول موضوع التأمين وإعادة التأمين، وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة، وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها، وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن؛ قرر ما يلي: أولا : أن عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعا. ثانيا : أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون، وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني . ثالثا : دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني، وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة. والله أعلم . مجمع الفقه الإسلامي قرار رقم : 9 (92) ولكن ما هو الحكم لو أجبر المرء على التأمين التجاري هل يجوز له ذلك أم لا ؟ يقول الدكتور عبد الله بن بيه (عضو المجمع الفقهي والأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز بجده) التأمين بهذا الشكل مرفوض ومحرم إلا في حالة الضرورة التي لا يمكن لك الخلاص إلا به، كما لو كان لا يمكنك أن تحرك سيارتك إلا بتأمين، أو أن تنقل بضاعة إلا عن طريقه، أو ألا تمارس تجارة أو حرفة إلا بعد حصولك عليه، ففي هذه الحالة يجوز لك التأمين بناء على القاعدة الشرعية أن ما حرم للغرر يحوز للحاجة وهذه قاعدة دقيقة جدا ينبغي التنبه لها، لأن الغرر ليس كالربا ولا يشابهه بحال من الأحوال، فالربا لا يجوز استخدامه للحاجة ولا لغير الحاجة لكن الغرر يختلف فهو جائز عند الحاجة. ويرى حفظه الله أن الانتفاع بالتأمين الإجباري في هذه الحالة جائز لأنه في مقابل مال دفع، أم إذا كان لم يجبر عليه فإنه في هذه الحالة لا يحل له ولا يجوز له الانتفاع به. أما إذا كان التأمين تعاونيا، فهذا لا إشكال في جواز الانتفاع به سواء كان مخيرا أو مجبرا لأنه في أصله مباح. صورة التأمين المباح وعن صورة التأمين المباح يقول الشيخ عبد الله بن بيه: التأمين المباح هو التأمين التعاوني وهو الذي يكون على سبيل التبرع، أي أن المشتركين في التأمين يدفعون أنصبتهم على سبيل التبرع ومساعدة المتضررين، وما بقي في الصندوق بعد ذلك فإنه يصرف في مصالح المسلمين. هذا ونظرا للحاجة الملحة لمثل هذا النوع من المعاملات فقد قامت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بتأصيل التكييف الشرعي لعقد التأمين، حيث نصت في قرارها رقم 51 وتاريخ 139744هـ على اعتماد نموذج التأمين التعاوني باعتباره النموذج الشرعي للتأمين الذي يخلو من المخالفات الشرعية، حيث أحاط القرار عقد التأمين التعاوني بالضوابط التالية: 1 - التأمين التعاوني عقد تبرع يقصد منه التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فليس الهدف منه الربح، ولكن الهدف منه توزيع الأخطار والتعاون على تحمل الأضرار. 2 - التأمين التعاوني يخلو من ربا الفضل والنسيئة ويجب ألا تستغل المساهمات في المعاملات الربوية. 3 - إن جهل المساهمين بما يعود عليهم من نفع لا يضر لأنهم متبرعون، وبالتالي فليس هناك مخاطرة أو غرر أو مقامرة. 4 - يجوز لجماعة المساهمين في شركة التأمين التعاوني أن يستثمروا ما جمع من مساهمات لتحقيق غرض الشركة التعاونية فيما بينهم.